عبثية العنف في “أوراق اللعب”

 

بعد روايته الأولى “ليال بلا جدران” والتي تركت صدى جميلا في الصحافة المغربية، يقوم الروائي المغربي حسن المددي بإنجاز عمله الروائي الثاني “أوراق اللعب”، والذي صدر عن المركز الثقافي للكتاب في مدينة الدار البيضاء المغربية. وتحتوي الرواية على ٣٣٤ صفحة من القطع المتوسط. ويبدو أنّ الكاتب منهمكٌ في إنجاز مشروع روائي، يتقصى فيه الظواهر الشاذة في السلوك الإنساني الذي يتمثل بالقسوة في سلوك البشر إزاء بعضهم البعض، والتي عبّر عنها بالسلوك الذئبي بقوله: “الإنسان ذئبٌ لأخيه الإنسان “.

ومن خلال هذه الرؤية، تنمو الرواية وأحداثها في ظلّ فصول من العنف والقسوة، بين بشر لا يعرف بعضهم بعضًا. ولكنّ روح الانتقام والتشفي والتعذيب حتى الموت، تسود بينهم، في ظلّ علاقات مشوّهة وغير مفهومة، وبين أبطال القصة الذين يتبادلون الأدوار في السرد الروائي، والذي يقدمه لنا الكاتب بأصوات منفردة. مرة بلسان الجلاد العقيد التائب، ومرة بلسان الضحية، ومرات بلسان المحامي أو المرأة الظلّ التي أحبّها الضحية ذات زمن .

وقد شكّلت هذه الأصوات بمجملها المتن الحكائي للرواية المتشابكة الخيوط والمتشعبة الزوايا، والتي تنطلق من لغز رسالة أرسلت من شخصٍ مجهول إلى محام في مدينة ما، تتحدث عن سرٍ مكتوب ومرقون على أوراق اللعب للتمويه. وكأنّ الرواية تريد أنْ تُفصح عن أنّ الحياة عبارةٌ عن أوراق لعبٍ عبثية لا تتمتع بمنطق إنساني، بل هي ألعاب حجرية تحركها الصدف القاهرة والأحداث اللا معقولة.

فهذا الرجل الضحية أو الجلاد الذي يجد نفسه مغرقًا في سادية عنيفة، نتيجة لمقتل زوجته وابنه بشكل عنيف عن طريق تقديمهما طعاما للذئاب، فبدلًا من أنْ يتعظ ويتجرد من عوامل القسوة التي تسلطت عليه، يتحوّل إلى مخلوق ساخط وسادي، يتسلح بأنياب من العنف والقسوة والشراسة، ويستخدمها ضد إنسان بريء، وهو عباس الوفي الذي خُطف عبر الحدود، وعاش في معتقلات التعذيب التي فتكت بروحه وجسده.

ولكن عباس الضحية، ينجو من آثار التعذيب، بفضل التسامي الروحي الذي  يجعل عذابات الجسد جسرًا إلى روح قوية، تعلو على الألم وتتحداه. وبذلك تنتصر روح عباس الوفي الذي يخرج من المعتقلات مُثْخَناً بجراحاتها  الجسدية. ولكنه استطاع أنْ يلملم بقايا الروح، كي يصمد أمام عوامل القسوة الإنسانية التي ساهمت في استعباده، على يد جلّاد متوحش، وهو العقيد الذي مارس كل ما يمتلك من سادية. ولكنّه يعترف في نهاية المطاف بذنوبه.

عباس الوفي خرج من معتقل خطفٍ عبثيٍ، دمّر جسده، وأتى على الرمق الأخير من روحه التي أبت أنْ تنهزم، فانتصر على جلّاده، فقد عاد إلى الحياة من جديد، متحديا القسوة في استيلاء الآخرين على بيته. ولكنه يرمم بقايا حياته ويفتتح مكتبة، والتي تعبّر عن هواجسه في أهمية المعرفة والبناء الفكري للإنسان، كما أنّ الضحية عباس والذي خرج كحطام بشري، بقي متشبثًا بطيف حبيبته التي كان شغوفًا بها قبل خطفه، وهذا يدلّ على أنّ روح المحبة أقوى من روح الكراهية. لكنّ عباس العائد إلى الحياة من جديد، يكتشف بأنّ ظروف الخطف واليأس من عودته قد أجبرت حبيبته الأبدية على إكراهات زواج قسري، بحيث يخبو الحب ويتلاشى في ظلّ العنف البشري.

وهكذا فإن لا إنسانية الخطف والعنف، لا تطال الضحية فحسب، وانّما تسطو على كثير من الدوائر الإنسانية المحيطة بها، مثل الحب والحياة والألفة والمودة.

يموت عباس الوفي بعد فترة من إطلاق سراحه، وهو مثخنٌ بجراحات المعتقل والتعذيب اللاإنساني، ولكنّ موته يترك عميق الأثر والإدانة للقسوة والعنف  .

أما الجلاد، وهو العقيد مصطفى الركباني، والذي وصل إلى كندا لاجئاً، وعاش في مدينة اوتاوة الكندية، وقد فضح الكاتب حالات اللجوء الكاذب في كندا. والتي تحتضن من يدّعي أنّ حياته تتعرض إلى الخطر في بلده. فليس هناك مجسات  لمعرفة الضحية من الجلاد.

وهكذا تتناول الرواية بشكل سريع وعابر، معنى أن يستحق الانسان صفة اللجوء؟

مصطفى الذي نجا من ماضيه، والذي اعتقد أن اللجوء إلى كندا سيمسح آثار الماضي. ولكنه لم يتمتع بسلام الروح، فقد استعرت في أغواره أصوات الضحايا وصورة القتل والتعذيب الذي اقترفه. وبقي يعيش عقابًا ديستوفسكيا، حتّم عليه أن يسجل اعترافاته، ليتخلص من عبئها.

هذا الإنسان (الذئب) قد ندم على ما اقترفه من عنف وتعذيب وجرائم بحق الإنسانية، لذلك حاول أنْ يتطّهّر من رجسه، وأن يكتب رسالة اعتراف عن جرائمه إلى المحامي جلال، والذي استطاع أنْ يرتب الأوراق ويقدمها إلى القارئ.

الرواية تتوزع من حيث التلوّن الصوتي الذي يضيء زوايا الحدث. فمرة يأتي السرد على لسان الجلاد، ومرة يأتي على لسان الضحية. ومرات أخرى يتدخل الراوي لترتيب الأوراق، حيث نستشفًّ ُأنّ ثمة جرائم ارتكبت عبر حدود دولتين لم يحدد الكاتب اسميهما، سوى أنّ واحدة قد تعرضت إلى فوضى ما يسمى بالربيع العربي، وأصبح القتل والفتك بالإنسان  شيئًا عاديًا، العروس وزوجها يتعرضان إلى موت تعسفي ودون سبب مقنع. وكأنّ الكاتب يريد أنْ يرسم لنا أبشع المشاهد عن عنف عبثي وهو نتاج لغياب القانون، بين أنظمة  اجتماعية تعرضت إلى الفوضى، والتي أفقدتها بوصلة الحس الإنساني، وجعلتها تسير وفق قوانين الغاب. لذلك فكان موضوع الاختطاف عبثيا، ويندرج ضمن عوامل الفوضى وغياب القوانين والقيم والتي تحوّل الإنسان إلى وحش، لا يعرف سوى وسائل الفناء والقتل.

لقد قدم لنا الكاتب دروسًا عن بشاعة العنف والكراهية. وكيفية وصول هذا العنف في النهاية إلى طريق مسدود، لتنتصر الإنسانية، وذلك من خلال اعترافات العقيد ومحاولته التبرء من ماضيه في العنف.

أمّا موت عباس الوفي والذي خذله جسده، فقد انتصر بإنسانيته، وبحبه الإبدي إلى المرأة التي تركته مضطرة، بعدما علمت بأنه قتل بيد أعداء مجهولين.

“أوراق اللعب” رواية استطاعت أنْ تتلمس المناطق الرخوة لدى الإنسان، وأكّدت مواطن القوة في القيم النبيلة التي تنتصر أخيرًا على عوامل القسوة .

لقد انتصر النبض الإنساني في الأعماق النفسية السحيقة للبشر، الذين حاولوا أنْ يتحرروا من عبودية الكراهية، والتي تحوّلهم إلى ضباع مفترسة.

رواية أوراق اللعب تسعى إلى البحث عن القيم النبيلة، في عالم تجتاحه الوحشية والعنف. حيث تعالج مفهوم الشراسة والعنف، من أجل عالم نقيّ، يتّسع للجميع.

ميدل إيست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى