عبدالرحمن منيف.. كاتب يشعل الشمس كل صباح

حلت يوم (الأحد) الذكرى الجديدة لرحيل صاحب “شرق المتوسط”. ملحق آفاق ينشر بروتريه للراحل في المناسبة.

تشكلت تفاصيله من اتجاهات عدة، كونه وُلد وفي جيناته بقايا لأرض كانت مرتعاً للكثير من الذئاب. لذلك كان يهرول طوال حياته من أجل أن يكتب سطراً كاملاً عن الحياة التي لم تدنس. خرج محاطاً بجدلية الأرض والإنسان. هذه القيمة التي لم يجد مبرراً لطمسها تحت الركام. هو من نوعية البشر الذين برعوا في خلق مناخ يُكسبه مناعة ضد الاختناق.. فكانت الكتابة هي جسره نحو إكسير البقاء . ربما بقاء موقت.. ربما حياة بقدم واحدة لا تأخذه بعيداً.. ولكنه كان يجدها تستحق أن نحياها.

عبدالرحمن منيف.. أعزل قرر المواجهة بقلم كلما جف حبره غمسه في صدره؛ ليتذوق ملح الوجع الأسود فيعاود جر رأسه فوق البياض الوحيد الذي كان يعترف به. هو بلا شك يمتلك تجربة تجعله يجلس إلى منضدة الكتابة متى يشاء. لا تعوقة كوابيسه التي لاحقته كثيراً حتى في منفاه. ظل وفياً لوطنه الكبير. ربما لأنه كان يؤمن أن الوطن بداية حقيقية وصادقة لكل الحضارات، بشرط أن يكون الإنسان حاضراً بكامل إرادته. فالجهل يشبه الموت من وجهة نظره، والإنسان لا ينهض إن كان جاهلاً: و«الجهل هو الوجه الآخر للعبودية» كما كان يقول دائماً.

لا نستطيع القول إنه كان استثنائياً، ولكنه كان ثابتاً كنقش تاريخي. مراحل تطور عبدالرحمن منيف الأسرية، واتساع رقعة الأماكن التي عاش فيها أحياناً أكسباه الكثير من التمرد؛ فهو دائماً يراهن على أنه لن يخسر الكثير؛ لأنه لم يكن يمتلك غير سنواته التي طافت به، فخسارته لهذا الحياة كانت هزيمة غير معلنة أو موتاً بارداً لرجل يشعل الشمس كل صباح، وهو يدخن غليونه.

منيف مثقف متعدد. لا يقبل الوقوف بين البداية والنهاية. إما أن يبدأ بطريقته أو أن ينتهي بلا ندم يحرقه. من يقرأ لعبدالرحمن منيف، يشعر به قريباً منه. يخبره أن ثمن حريته كبير ولا بد من التخلي عن بعضها؛ من أجل القضية. يقول واصفاً حالته والتشظي الذي لم يفارقه: «مثل كثير من الفقراء الحالمين كنت أرسم على وجه السماء خيولاً راكضة باستمرار، كنت أفعل هذا عندما تكون السماء شديدة الزرقة وليس فيها غيمة واحدة، وكانت هذه الخيول شديدة الجموح وشديدة القوة، وكانت تسافر دائماً، وكنت أمتطيها باستمرار وأسافر، لكني في هذا السفر لم أكن أبحث عن شيء، أو أعرف شيئاً، حتى جاء يوم مللت فيه أن أسافر ببلاهة هكذا، فبدأت أبحث عن أهداف لهذا السفر، لكن بحثي كله ضاع، وانتهى بلا جدوى، فقررت أن أتعلم القراءة، وكانت تلك هي البداية لرحلة عذابي الحقيقية على الأرض».

كتب كثيراً هذا «البدوي» العاشق للقفز فوق الأسطح الساخنة. قرر أن يلاقي العزلة وأن يمنح نفسه جواز سفر مفتوح. لا يؤمن بقسوة المعابر ووجوه المفتشين اليابسة.

هل يحق لنا أن نتساءل ما إن كان «منيف» يستشرف المستقبل، يجره بحبل من حرير نحوه؟ أم أن صدفة ملعونة كانت تغذي صفحاته؟ هل كان يزرع النخيل لنا ليكبر معنا كما كان يفعل متعب الهذال في مدن الملح؟ لا أعلم. ولكنه كان يعلم أننا سنكبر حتى وإن ظل النخيل صغيراً وسنتذوق ملحه. ويطمسنا التيه. ذلك الانكسار على ملامح عبدالرحمن منيف هو نصف الوجع الذي كان يشاركه الأكل والشرب والكتابة والتدخين. ربما ورثه من أمه العراقية. من مواويلها الحزينة. ومن غياب والده الذي سرقته قوافل التجارة. الكتابة بالنسبة إليه وطن آخر، عالم يسكنه ويعيشه كقصة حب مجوسية لا يقبل السلام. فمهما حاولنا معرفة من يكون عبدالرحمن منيف فإننا سنفشل بلا شك. فهو لم يكن كاتباً فقط. بل كان بطلاً يحقق أحلامنا وتطلعاتنا من خلال رواياته.

مدن الملح.
شرق المتوسط.
قصة حب مجوسية.

حين تركنا الجسر، وغيرها. صور كانت معلقة فوق صدره. أمثلة حولها بقلمه إلى مناطق صاخبة. أحياها بعد أن شارفت على الهلاك. هذا النجدي الرحال بشعره الخشن والصوت المتقطع حكاية صادقة ومثالية للمواطن العربي الذي يصنع من جراحه أناشيد تردد كل صباح. حتى وهو يهم بمغادرتنا حاملاً فوق جسده المنهك أعوامه السبعين لم يرتجف. ولم يسقط عالمه الذي بناه داخل صدره بلا خرائط وبلا أسئلة مريبة وبلا لوعة غياب. ولعلي أختم بكلمات كتبها بوجع حميم: «قد لا تكون بلادنا أجمل البلاد؛ لأن هناك بالتأكيد بلدانًا أجمل، ولكن فى الأماكن الأخرى أنت غريب وزائد، أما هنا إن كل ما تفعله ينبع من القلب ويصب فى قلوب الآخرين وهذا الذى يقيم العلاقة بينك وبين كل ما حولك؛ لأن كل شيء هنا لك.. التفاصيل الصغيرة التي تجعل الإنسان يحس بالانتماء والارتباط والتواصل».

عناوين

مثقف متعدد. لا يقبل الوقوف بين البداية والنهاية. إما أن يبدأ بطريقته أو أن ينتهي بلا ندم يحرقه.

النجدي الرحال بشعره الخشن والصوت المتقطع حكاية صادقة ومثالية للمواطن العربي الذي يصنع من جراحه أناشيد تردد كل صباح.

صحيفة الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى