عبدالله المتقي: التفكير في الرواية “مدن ولا سراويل” لكلثوم عياشية

 

تتبوأ الرواية التونسية اليوم مكانة وموطئ قدم في الساحة الثقافية التونسية  والعربية ، بما تأتى لها من أسماء وفدت  اليها من تخصصات متباينة ، وبفضل الاهتمام الاكاديمي ببعض نماذجها ، وكذا اغتناؤها واستفادتها من التجارب العالمية ، من خلال أسماء أسست لهدا الفن الناشر” البشير خريف ،  صالح السويسي ، ومحمود المسعدي ” وأسماء أخرى خاضت مغامرات التجريب  ورامت  الخروج عن الانماط الروائي السائدة ، والانتصار للحداثة ، وارتداء الآراء النقدية لحلة ابداعية  من قبيل ، ثم  أسماء واعدة خرجت من معطف  التجديد والتجريب ، وكتبت نصوصا مغامرة  ، ومنها رواية ” مدن ولا سراويل ” ، وهي التجربة  الأولى للكاتبة التونسية كلثوم عياشية ، والحاصلة على المرتبة الخامسة في النسخة الأولى من   منافسات جائزة ” توفيق بكار للرواية العربية التي تنظمها جمعية ألق الثقافية بشراكة مع مكتبة تونس 2019

ولعل أول ما يثير انتباه المتلقي  في هذا  النص الروائي ،  هو انفتاحه على السّرد المابعد حداثي في التجربة الروائية الجديدة ، وذلك بتوظيفها لتقنية من أهمّ  تقاناته وهي الميتاروائي، ذلك الخطاب المتعالي والوصفي الذي يصف العملية الإبداعية نظرية ونقدا، وبرصد عوالم الكتابة الحقيقية والافتراضية والتخييلية، ويستعرض طرائق الكتابة وتشكيل عوالم متخيل السرد، وتأكيد صعوبات الحرفة السردية ، وتبيان هواجسهم الشعورية واللاشعورية،

وعليه ، ظهرت مجموعة من التورات النقدية والمصطلحية التي تعنى باستكشاف الخاصية الميتاسردية في النصوص الإبداعية ، التي  أصبحت اليوم ميزة أساسية تميز النصوص السردية التجريبية والنصوص ما بعد الحداثة،

ومن تجلياته في رواية:” مدن ولا سراويل ” ، توظيف ما يسمى ذ الخطاب النقدي من خلال  توظيف بعض المصطلحات النقدية المندسة في المحكي السردي من ك :” الحبكة ، القارئ ، النظريات ، الأنساق ، السرد ، الشخصية …”، واستثمار  بعض المقاطع السردية التي تستعرض من خلالها   هواجس الكتابة التي المؤرقة  ، نقرأ في الصفحة  :” لكن ، هل أصنع هذه الشخصيات من ملامح مختلفة حتى لا يتعرف عليها أحد ، أن أعيد بعض ما انسكب من حكايتهن في مسمعي؟” .

الشاهد أعلاه يقدم تصورات نقدية تتعلق بعالم الكتابة ومن خلال مكون الشخصية الذي يعد من أكثر المقولات النقدية ، التي لا قت مقاربات الباحث النفسي والاجتماعي ، وانتقلت من كائن من لحم ودم ، إلى كائن من ورق  .

وفي نفس سياق التفكير في روايتها ، تناقش ” عياشية ” ، البداية والنهاية ، ولحظة الإمساك بالتخليق والفكرة ، نقرأ في الصفحة  40:” ” أكتب ، أحاول الإمساك باللحظة الهاربة ، إسعى  إلى ضبط حدود البداية والنهاية ، ملامح القول والأشخاص والفكرة ، أهم ما في الحكاية كيف نشأت وماذا تروم ، البقية جزئيات دفتها من حتميي إلى مؤكدة ، يمكن تجنبها ب” لو”

ما يلاحظ على هذا المقطع السردي السابق أن الروائية تحولت من طبيعتها كمبدعة إلى ناقدة  تفكر في روايتها  والتفكير  ، وتجعلنا  كأننا أمام نص نقدي ، تطرح من خلاله الرواية  قلق الكتابة ومثاقلها  ،  وليس كما يعتقدها البعض إسهالا وتلطيخا للبياضات والمساحات الفارعة

من جهة أخرى ، تستند الرواية على استعراض علاقة الكاتب مع الكتابة عبر محكي سردي نرجسي مهووس بالكتابة :” تجتاحني تلك الرغبة في الكتابة دائما ، إصدار واحد يكفيني” ص ، قي هدا الشاهد النصي ، تركز الكاتبة على ذاتها المسكونة بلذة الكتابة والعطش إلى الارتواء من بركة الحكي ، التي لا تستطيع الابتعاد عنها بالرغم من كل الآلام التي قد تسببها لعنة الكتابة الجميلة .

ونصادف هذه الميتارواية الذاتية في استحضار حرقة الكتابة وعاداتها  وطقوسها :” أكتب بنشوة كمن ينتحب ، يتخفف من ألم عميق يشق الروح أشطرا ، وأنقطع أياما ، أعاف الإمساك بالقلم ، آخر الليل ” ص38

هكذا ، تستحضر الرواية لسعة  الكتابة وتشدنا  إلى معرفة العلاقة الوطيدة التي تربط الكاتبة بعوالم الكتابة وكيفية نظرته الخاصة إليها. بحيث تحول فعل الكتابة عند الكاتبة  إلى فعل  يسبب الألم الموغل في القلق  ، وفي نفس سياق أوجاع الكتابة وهواجسها نقرأ في الصفحة67” أستغرق ساعات في نوم محموم ، تختلط فيه الوجوه ، أتكلم خلالها لغات لا أجيدها في اليقظة ، تتزاحم الأحداث منسجمة مترابطة في تفاصيلها الدقيقة لأناس لم أرهم من قبل ولمدن لم أزرها قط “

يشخص هذا المقطع ، انسكان الكاتبة السارد بفعل الكتابة ، إلى درجة تهريبها شؤون كتابتها إلى الحلم ، وهدا الحلم داخل الحلم ، يشي بانسكانها وجنونها المعقلن بنصها الروائي ، لأن الكتابة في الأخير مسؤولية وحرقة ، وليست فعلا مجانيا وإسهالا بلا حسيب ولا رقيب .

وتنتقل ” كلثوم عياشة ” في موقع آخر إلى خلق حوار بينها والناقد والمتلقي من أجل خلق تفاعل منتج، نقرأ في الصفحة  17:” وقفت السرد عمدا، وتساءلت: هل أجعلها قصة إناثمنفردات ، هل هو موقف من موقف معين من الذكور أو خيار قادم من عمق الترسبات النفسية التي أعانيها ؟

لا تقولوا أن هذا السؤال من حق الناقد أو القارئ أنا أيضا علي أن أسأل  نفسي وأعرف السبب هذا المقطع يجسد  اختيارات الكاتبة الجمالية والموضوعاتية ، فالحرية والابداع صنوان لا يفترقان لديها ، والإبداع الحر لا ينبع إلا من الذات الحرة،  ومن النفس التواقة، والمهووسة بالكشف عن المجهول و تجاوز المعلوم.

و من التجليات المياتاروائي  في الرواية الكشف عن ميولات الكاتبة القرائية ،  ورقيا وبصريا  نقرأ  في الصفحة :” راقتني كثيرا فكرة الفنان ” إيدي مورفي ” الذي قرر في ردة فعل على المجتمع الأمريكي الأبيض أن ينتج فيلما يصي فيه البض تماما، فجعل أبطاله سودا حتى الممثلين الثانويين ” ص17

الشاهد  النصي السابق ، يكشف الخلفية الثقافية للكاتبة ، والذي تجاوز لمكتوب إلى البصري والذي تجسد في  سينما ” إيدي مورفي ” ، مما يؤشر على انفتاح الرواية على السرد المرئي ويبدي المحكي في الرواية جمالية خاصة  في رواية ” مدن ولا سراويل ” ، تجعلها أقرب إلى المنديل المطرز  ، حيث الخطاب الروائي امتزاج وخليط من الاساليب واللهجات والأجناس ، وأول مظهر من مظاهر التعدد اللغوي في الرواية  يتمثل في اللهجة العامية التونسية  ، نقرأ في الصفحة 68:” يا ميمتي ، حرام عليك ، بالك مريضة ؟ هي ديما تشكي راسها وكلاويها ” .

مما يلاحظ في لغة هذا الشاهد أنها ملفوظ هجين تمتزج فيه لغتان ،متباينتان، مما يمنح النص الروائي شحنة حادة  تشع بدلالات نافذة تعكس حالة الشكوى الدائمة والأوجاع المداهمة للجسد جراء القهر اليومي .

كما تستحضر الرواية نقرأ في الصفحة الأغنية الشعبية  نقرأ:

” ريدي الغالي نعديك ياسيات ريدي الغالي

ريدي الغالي ونقابلك بالصبر مهما جرى لي ” ص 36

المقطع أعلاه ، هو أغنية من أصول ليبية غنتها المغنية التونسية ” سلاف ” ، وراجت في سبعينيات القرن الماضي ، وهذا الانفتاح على ذاكرة  الأغنية الشعبية من شأنه ترصيع المحكي السردي، وتحفيز لجمالية التلقي، ومن ثم ،واصطياد القارئ للدخول إلى رحم الحكي ؟

وعليه، نستنتج ان هذا التعدد والتفاعل ، قد انصهر داخل النص الروائي ، ولم يكن معزولا ومحايدا ، بل لا نتاج تفاعل داخلي بطمس الحدود الجمركية بين هذه الحقول دون ان يشعر القارئ بذلك.

وفي سياق التطريز القصصي ، توظف الكاتبة بعضا من مخزونها الثقافي ومن مرجعيات وحقول متباينة ، من خلال المقتبسات التي تعلقها في مطلع أنفاسها الروائية :”صلاح عبد الصبور ، الميداني بن صالح ، جبرا ابراهيم جبرا ، التوحيدي ..” ، والجديد في هذه الثريات المعلقة ، نقرأ مقابسة ذاتية للكاتبة تقول فيها :” القلب غيمة دفعتها الريح لتسكب وجدها على بقيع ” ، وتشي بأن الكاتبة لا تكتفي بالاستهلاك والاجترار ، بل بدورها تملك من القدرات التخييلية لإنجاب مقتبستها من داخل المقتبسات .

وإلى جانب هذه التقنيات هناك الحوار بين الشخصيات الذي يتم تارة باللهجة التونسية تارة ، وأخرى باللغة العربية الفصحى ، والذي ساهم في تأثيث الأحداث والتعبير عن رؤى ووجهات النظر المتصارعة والمتباينة,

وخلاصة القول ، ‘إن ” كلثوم عياشة ” ، أثبتت أنها روائية أولا ، وأنها خبيرة بكشف النقاب عن الكيفية التي تصنع مسارات  حكايتها ،  وشخصياتها  وطقوسها وحرقتها أثناء لحظة الكتابة   ، بمعنى أنها تفكر في ورشتها الروائية ، وتنخرط بشكل مباشر في متخيلها الروائي كي تبدي مواقفها واختياراتها ومعاناتها واستشرافها ،  مستفيدة من الوضع الجديد الذي اتاحته تقنية  الميتاروائى ،  كي تعلن من خلاله على  اختياراتها الجمالية ، بعيدا عن هذيان التجريب والإيغال في  التنظير داخل الإبداع ،  لفائدة انسياب الحكي بسلاسة داخل النص .

 

 

 

صحيفة رأي اليوم الالكترونية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى