كتب

عجاج نويهض: رجال من فلسطين

عجاج نويهض: رجال من فلسطين…. تاريخ فلسطين وشعبها ورجالاتها لا ينقطع بمرور الزمن والحقبات، طالما أنها ترزح تحت احتلال إحلالي/ استيطاني إسرائيلي. الذين خاضوا غمار التضحيات ضد الحركة الصهيونية، والدعم الكامل من الانتداب البريطاني لغزوه وتغلغله في أرض فلسطين، شكّلوا مشاعل مضيئة في بدايات الطريق. استشعروا الخطر الداهم، وحاولوا بكل ما أوتوا من تضحيات، فاعْتُقِلوا وسُجِنوا ومنهم من استُشهد، والكل عانى آثار نكبة الـ 48. عن نخبة من رجالات فلسطين، تصدّى المؤرخ والصحافي عجاج نويهض (1896-1982)، وأدلى بشهادته عن الذين عرفهم، وكانوا كثرة بسبب طبيعة عمله، معتمداً النزاهة في التوصيف وسرد الحكاية. يقول في هذا الصدد: «الصراحة التي عندي إنما زمامها بيديّ، لا أستجديها أحداً، ولا أستقرضها استقراضاً».

سياق هذا التوضيح منه، ورد في كتاب صدر حديثاً عن «مؤسسة الدراسات الفلسطينية» بعنوان «رجال من فلسطين كما عرفتهُم» للمؤرخ الراحل عجاج نويهض (جمع وتصنيف ابنته المؤرخة بيان نويهض). الكتاب عن رجال عاشوا في وطنهم فلسطين في النصف الأول من القرن العشرين، وكانوا في طليعة النخب السياسية والعلمية والأدبية والتربوية والاجتماعية والاقتصادية.

والكتاب بين أيدينا، تتوضّح فيه صوَر متنوعة، تُثري معلومات أي متابع عن فلسطين، وخصوصاً في حقبة بدايات التغلغل الصهيوني، ورعاية ودعم الانتداب البريطاني لإنشاء هذا الكيان الإحلالي/ الاستيطاني، الذي حلّ كارثياً على أبناء الشعب الفلسطيني. كما تتبدّى متانة الكاتب وشغفه باللغة العربية، أسلوباً، وترجماناً لعقله كمؤرخ ومفكر، فتحط الكلمة حيث موقعها، وتتألق المفردة حيث يجب أن تُفصح عن مكنون الفكرة، فنراه قلماً سيّالاً، كاشفاً عن بواطن، غامزاً من أدوار للبعض، متمكناً من لسع بعضهم الآخر.

في تقديم الكتاب، يورد خالد فرّاج وماهر الشريف عن نويهض «أنه من رجالات الحركة الوطنية العربية الفلسطينية والبارزين، كما عمل نحو عشرة أعوام سكرتيراً للمجلس الشرعي الإسلامي الأعلى برئاسة مفتي فلسطين الحاج محمد أمين الحسيني، وساهم في تأسيس حزب الاستقلال، وأسّس مجلة «العرب» (إلى آخره مما على المتابع أن يجده في كتاب «مذكرات عجاج نويهض: ستون عاماً مع القافلة العربية» عن «دار الاستقلال»/ بيروت)، إضافة إلى مقدمة للمؤرخة نويهض تختصر فيها تعريف ما جاء في الكتاب. يحتوي القسم الأول (بعنوان «حملة مشاعل النهضة الفكرية الوطنية في فلسطين العربية») على تراجم لأكثر من مئتي فلسطينيّ كان يعرفهم، عبارة عن قبسات أو شذرات أو لُمَع عن هؤلاء. أما القسم الثاني بعنوان «هؤلاء كما عرفتهم: حياتهم، عطاؤهم، تراثهم»، فيشتمل على سيرة 21 فلسطينياً، كل منهم في فصل مستقل.

وبالرغم من طبيعة السيرة الذاتية المواكبة لكل من هذه الشخصيات، إلا أن ما كان يتصارع على أرض فلسطين يومها، ويعتمل في نفوس هذه الرجالات، يظهر جليّاً طي صفحات الكتاب، تختصرها حماسة وتضحيات أولئك الرجال من جهة، واشتداد الخنق البريطاني والصهيوني على الفلسطينيين من جهة ثانية (بلغ عدد الذين زجّهم البريطاني في إضراب عام 1936 نحو خمسة آلاف معتقل). وما بين هاتين الحالتين، تظهر نتوءات الخيبات وضعف الحيلة والجهل بخلفيات عملية اغتصاب فلسطين المُتقنة التخطيط بقفازات الدهاء البريطاني، دونما سند عربي فكانت نكبة الـ 48، كأن المشهد لم يتغير كثيراً إلى اليوم، مع استثناءات استمرار تضحيات الشعب الفلسطيني.

ونظراً إلى العدد الكبير من الشخصيات الواردة في الكتاب (558 صفحة مع فهارس الأعلام والأماكن وفهرست عام)، سنتوقف عند بعض الشخصيات لارتباط دورها بمحطات بارزة لها دلالاتها. مثلاً، يصف نويهض شخصية موسى كاظم باشا الحسيني (1853-19349) بأنه «شيخ القضية بلا منازع، وكان يناطح الإنكليز واليهود»، وتقدّم التظاهرات عامَي 1919 و1920 وهو في حدود الرابعة والثمانين من العمر «لمّا قامت البلاد تستنكر طغيان الهجرة اليهودية في عهد هتلر». وهناك ابنه الشهيد في معركة القسطل عبد القادر الحسيني، وأيضاً الشاعر أبو سلمى الكرمي «من الذين أسهموا في حركة الأذهان لا في فلسطين وحدها بل في بلاد العرب جمعاء»، ناهيك بالشيخ المجاهد عز الدين القسّام (1871- 1935)، وثورته واستشهاده وقد باتت على ألسنة الكبار والصغار والحاقدين.

توقّف نويهض عند حكاية الصراع بين آل الحسيني وآل النشاشيبي، مجسَّداً بالمفتي الحسيني وبراغب النشاشيبي، محاولاً بكل ما أوتي من بلاغة اللغة والتهذيب الشخصي أن يضع هذا التصارع في إطاره. ومع أن نويهض كان سكرتيراً للمفتي الحسيني، إلا أنه شرح بتكثيف وتوسيع أبعاد شخصية راغب النشاشيبي وأضفى عليه من الإيجابيات، وغمز مما حمله من سلبيات إلى تأثير قريبه فخري النشاشيبي. وفقاً لما ذكره نويهض، ونقلاً عن راغب، فإنّ تقلبات فخري عند الإنكليز أودت بحياته مقتولاً في بغداد. يتّسع كلام نويهض للحديث عن صبحي الخضراء (والد الأديبة الراحلة أخيراً سلمى الخضراء الجيوسي) وهو «الخطيب المفوّه والسياسي والصحافي وأحد مؤسسي حزب «الاستقلال»، والناشر للتوعية ضد الصهيونية»، في حين أن أحمد سامح الخالدي (1896-1951) «عاش عمره وهو يسعى للوصول إلى إرساء نظام تعليمي جديد في فلسطين، وأراده نظاماً متطوراً»، وله الفضل في تأسيس المكتبة الخالديّة المعروفة إلى اليوم. أما رشيد الحاج إبراهيم (1891-1953)، فاستحوذ على مشاعر وقلم نويهض الذي قال عنه بأنّه «من أفذاذ رجالات العرب في حيفا»، عارضاً لمسيرته، ودوره اللصيق بالقسّام وثورة عام 1936، وفائض قيمه الأخلاقية ومسلكه الشخصي، والتضحيات التي قدمها، وهو «الذي أدرك منذ مجيء الانتداب البريطاني عام 1917 أبعاد الاحتلال العسكري وخطر الصهيونية»، فكان «فراشة ونيزكاً سماوياً معاً».

لا ينسى نويهض شخصيات مثل خليل السكاكيني، وعوني عبد الهادي، وتوفيق أبو الهدى «الذي كان الإنكليز راضين عنه دائماً»، وقد حكم ست سنوات كرئيس وزراء في الأردن، وهناك عبد الحميد شومان (مؤسس البنك العربي)، وقصته التي تعدّ نموذجاً للعصامية والإبداع والأخلاق السامية، فهو الأميّ وقد بلغ العشرين من العمر، والمهاجر إلى أميركا بلا خريطة طريق، وهو المناضل من أجل فلسطين، فعمل على تأسيس «البنك العربي»، الذي فتح أبواب جميع فروعه داخل مدن فلسطين وخارجها عشية نكبة الـ 48 أمام المودعين من أبناء بلده، وعن صراعه مع اليهود لمنع العرب من إنشاء أي مصرف. أما المفتي أمين الحسيني، فقد عرض نويهض لمسيرته «كما عرفها المؤرخ معرفةً وثيقة».

 

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى