عندما قررت أن أصبح مجنونا!

لم أعد أحتمل هذا الذي يجري!

الكهرباء مقطوعة، المازوت مفقود، البنزين يحتاج إلى طابور بطول جنازة الملك، النقود تأتي وتذهب وكأنها تذوب مثل الملح، لايمكنك أن تعيش إلا بالرشوة، وعليك أن تعطي، ولا أحد يعطيك، عليك أن تعيش عرضة للموت ولا أحد يهتم بدفنك، عليك أن تمرض وأن لاتشتكي من قلة الدواء..

قصة غريبة جدا في هذه الحرب، تغيّرت كل المفاهيم إلى الدرجة التي سمعت أحدهم يصيح في وجه طبيب على الحاجز: هذه مسألة لاتخصك . أنت لاتفهم .. هيا امش! ومشى الطبيب ..

حتى سائق التكسي الذي قد يفاجئ الراكب بصفعة إذا لم يعطه ثلاثة أضعاف مايستحق، يتبرم أمامك وكأنك عالة على المجتمع، ويقول لك صراحة إنه لم يرتح لك منذ أن صعدت في سيارته، وربما يرميك خارجا أمام الشرطي!

وهناك من يعيش مثل الكونت دي مونت كريستو بعد أن أخذ الكنز.. هناك من يدفع رزمة من المال على طاولة العشاء.. اللهم اجعل رزقهم حلالا فهم من أبناء ((النعم))، وخلقنا بعضكم فوق بعض طبقات..

كنا مجموعة مثقفين نشرب الشاي في مطعم، ونتحاشى أي طلب قد يرفع الفاتورة إلى مايعادل مكافأة مجموعة قصص في وزارة الثقافة ((العجوز))، وفجأة دخل شابان فوضويان يرتديان سترتين مبرقعتين دخلا مع فتاتين غريبتي الهيئة..

شغل هؤلاء الأربعة العيون، وقد انهالت أصناف الطعام على الطاولة،وكان السؤال كيف يدخلون إلى هذا المطعم والفاتورة تعادل راتب أسرة شهيد ؟!

جلسوا نحو ثلاثة أرباع الساعة، أكلوا قليلا مما طلبوه، ومع ذلك دفع أحد الشابين الفاتورة بلا مبالاة ، ثم خرجوا إلى مكان ما..

سألنا الكرسون : شو القصة؟ كم بلغت الفاتورة ؟ فأجاب ضاحكا: هؤلاء من الفساد، يتجولون في الحارات بملابس الجيش، والجيش ياحسرة ..

سألناه: والفتاتان ؟.. فرد : داشرتان .. وسترون الجميع بعد لحظات في أحد زوايا الحديقة العامة!!

تركت المكان وأصدقائي، وخرجت .. فأنا لم أعد أطيق ما يجري..كان علي أن أحارب بسيوف من خشب كي أتجاوز الأزمات، وكان علي أن أتناول حبوب مهدئة لاقتنع بما يجري أمامي؟! فلا شيء يغير الحال.. كان من الصعب على أي كان أن يغير الحال حتى أولي الأمر، وقد زاد هؤلاء فأصبح لكل حارة أولي أمر وعليك تقديم الطاعة لهم والدعاء !

أخيرا وجدت الحل !

أخذت الفكرة من الناطور المدعو((أبو الياس))، فقد اتصل به أحد العناصر الفاسدة في بعض الأجهزة المفزعة ليبتزه، وكان أبو الياس قد شرب حتى نهنه السكر، فما كان منه إلا أن شتم ذلك العنصر وشتم الجهة التي يعمل بها وشتم من أرسله، فخاف العنصر ولفلف الموضوع، وظن أن أبا الياس قوي إلى الدرجة التي لايخاف فيها من أحد، ولم يكن يعرف أنه ناطور يعيش على الكفاف!

حكيت هذه القصة لمسؤول كبير، فضحك من قلبه، وقال :

ــ أبو الياس أقوى من الفاسدين!

هكذا ببساطة، فقعت معي كما يقولون، قررت أن أصبح مثل أبي الياس، ودون أن يتعتعني السكر، فأنا لم أتناول قطرة واحدة منذ ثلاثين عاما..

ما أن تواجهني مشكلة مع أي جهة كانت حتى أرفع الصوت، نعم : أصيح مثل امرأة فاجرة، وأحتج وأشتم وربما أتطاول على الآخرين، وأحيانا أقوم بتأنيب المسؤولين في مكاتبهم، فمشت الأمور!!

اتصل بي أحدهم لتأمين المازوت، وملأت سيارتي بالبنزين دون طابور، وصارت الكهرباء تأتي في حارتنا عدة ساعات عندما أعود إلى البيت.. بل واتصل بي أكثر من شخص من (( أولي الأمر)) يسألني عن حاجة يقدمها لي، ورحت أتنفس الصعداء: ياللجنون ما أجمله!!

في الأيام الأخيرة، دارت الأسئلة عن قوتي وعن المسؤوليات التي أتولاها، فمن يقف وراء هذا الصحفي الذي لايخاف أحدا؟! كان كل شيء غامضا، وزاد الغموض من قوتي شيئا جديدا..

ترامت الأسئلة أمامي : من يقف وراءك ؟

تجهم وجهي وأنا أرد :

ــ ألا يعرفون من يقف ورائي ؟! بسيطة ..

وأخبرتهم :

ــ إنه أبو الياس ! هل تعرفونه ؟!

وانحنت الرؤوس خوفا !

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى