كتب

عودة إلى «عراق» فاضل العزّاوي

 

«أطلقت هدى صرخة هستيرية وهي ترى قاسم يسقط على حافة الرصيف، ملطخاً بالدم والوحل وقد انفلتت إحدى فردتي حذائه وسقطت على الرصيف. ثم وقفت مشدوهة لا تعرف ماذا تفعل، بل إنها لم تجرؤ حتى على الصراخ مرة أخرى، محدقة كما لو أنها في غيبوبة في المعاون قاسم الذي كان ينزف مرمياً، نصفه فوق أسفلت الشارع ونصفه الآخر فوق الرصيف. حاول قاسم أن يرفع نفسه ولكنّ يديه غارتا في الماء الآسن المتجمّع في الشارع وهوى مرة أخرى على وجهه الملطّخ بالدم والوحل. وفي لحظة، لحظة سريعة جداً رأى قاسم صديقه القديم جليل محمود يلوح له من فوق غيمة بعيدة وثمة أغنية قديمة تهمس في ليل: أواه أيها الطحان، أيها الطحان… أنت صاحب الخان وأنا المسافر».

بحلّة جديدة أعادت «منشورات الجمل» طباعة «مدينة من رماد» (1989)، إحدى أشهر روايات الشاعر والروائي العراقي فاضل العزاوي (١٩٤٠)، المولود في مدينة كركوك والمنتمي إلى الجماعة الأدبية (١٩٦٤-١٩٦٨) التي تحمل اسمها مع نخبة من رواد الحركة الأدبية شعراً ونقداً وفنّا تشكيلياً وترجمةً أمثال سركون بولص، ومؤيد الراوي وجان دمو وجليل القيسي وصلاح فائق سعيد وغيرهم… إنّه جيل الستينيات الذي حمل مشعل الرفض ورمي الحجارة في المياه الآسنة، لتتولد الإشكالية الكبرى التي صاغها صاحب «سلاماً أيتها الموجة، سلاماً أيها البحر» في «مدينة من رماد»: إنها إشكالية العلاقة بين المثقف والسلطة، الصرخة التي أطلقها العزاوي منذ القصيدة الأولى «نحن الشعراء الممتلئين سلاماً نخرج للنزهة في وادي المنفيين»، صرخة الشاعر الذي يقف في الضفة الأخرى ويحتجّ: جليل محمود، أحد أبطال الرواية يحيلنا إلى فاضل العزاوي نفسه الذي اعتقل في العراق لمرات عدة، آخرها عام ١٩٧١ اثناء إلقائه قصيدة «الصرخة» في «جمعية التشكيليين» في بغداد، فكافأته السلطة البعثية بالسجن في حينها.

يلاقي جليل اليساري المصير نفسه، ليتولى التحقيق معه صديقه القديم (قاسم حسين)، فتلقى على جليل كل التهم الممكنة، الاتهام بالإرهاب وقتل الأبرياء، وتعكير صفو الأمن القومي، وتنتصب السلطة القمعية بكل أجهزتها وعنفها واعتدائها على الجسد والروح والفضاء الأكثر خصوصية للسجين، إذ لا يلبث المحقق الذي يلتقي بزوجة المعتقل أن يجعل من هذه الأخيرة عشيقته: «في آخر الليل وقف المعاون قاسم حسين أمام جليل محمود الذي كان مغلولاً إلى النافذة. لم يقل شيئاً رغم أنه كان يريد أن يحدثه عن هدى الجميلة التي تخونه كل يوم معه. كان يريد أن يحدثه عن جسدها الذي يرتعش مثل طائر مذعور بين يديه، بين أنه اكتفى بالصمت. فكّر مع نفسه، ربما كان صامداً لأنه لا يريد أن يعود مقهوراً إليها. مدّ يده ورفع رأس صديقه المدلى وقال ساخطاً:-أيها الحمار. وفجأة رأى في وجه جليل محمود شيئاً لم يفطن إليه من قبل، رأى في اللحظة ذاتها وجهه هو». هل نحن إذن أمام رواية تحاكي السيرة الذاتية لصاحب «القلعة الخامسة» و«آخر الملائكة» مع تنويعات على إطار السرد في المكان والزمان وتطعيمها بجرعة من الخيال؟

الإجابة يمكن تقصيها في شعر العزاوي نفسه كأن نسمع في «عويل العنقاء» (1974): «بين زمان وزمان ينهض القتيل من حفرته/ وينفض الغبار عن جبهته/ وتأخذ الطريق/ أقدامه للسوق/فيمسك الناس به/ لقد هربتَ مرة أخرى/ ويشنقون وجهه القديم/ في حفلة أخرى». اليد التي نكّلت بالعزاوي الذي نشر أكثر من عشرين مجموعة شعرية ورواية وكتاباً نقدياً ودفعته للهجرة نهائياً من العراق إلى برلين حيث يعيش اليوم ككاتب متفرغ ينشر أعماله بالعربية والإنكليزية والألمانية، هي نفسها التي تصفع وجه جليل، إذ أن المعاون قاسم قد تعلّم في الكلية أن العالم بدونه كشرطي يكاد يكون مستحيلاً: «عالم بدون شرطة! من يمكن أن يتصوّر ذلك؟ تعلّم أنه لا يدافع عن حكومة بالذات وإنما يقف ضد الفوضى، فإذا ما اختفى الشرطي من الوجود، فإن العالم سوف يمتلئ بالمجرمين الذين لن يتوانوا عن ارتكاب أبشع الجرائم. لكنه مع الزمن نسي حتى هذه القاعدة وسقط في أسر العادة التي تخص كل شرطي في العالم: أن يعتبر كل الآخرين أعداءه». تنتاب قاسم لوهلة الشكوك حول التهم التي تنسب إلى صديقه القديم، لكنه لا يلبث أن يصرخ به أثناء التحقيق: «اعترف أيها الغبي»، ليهوي بكفه على وجه جليل الذي بوغت بالضربة. «أنت الذي دفعتني إلى ذلك، لقد أرغمتني عليه بعنادك»: إنها الدولة، العقل «المطلق» بالمعنى الهيغلي تضرب وتبطش وتبرز مرغمة أظفارها بوجه المشاغب والمعترض والشاعر الذي يكتب قصيدة في جريدة أو يلقيها في حفلة تشكيلية، وتريد من المتهم شيئاً واحداً: إقراراً بالخطأ وأن «تتساوى كل البقرات في الليل»، ليل الخضوع والذل والمهانة. في ثنائية الشاعر والجلاد، لا بد من انتصار العصفور على الطلقة: نستذكر من «سلاماً أيتها الموجة»: «هذا الواقف بين الأوثان/ خفياً مثل الشهوة/ هذا الممنوع من الموت/ كعصفور الروح/ تعال إليّ أميراً/فلاسمك رائحة العشب المحروق على هضبات الفجر/ مهموم كالبرية صوتي/ اجلس والبحر على مائدة الليل وأبني أطفالاً/ للأجيال تنادي المستقبل»… هذا النصر المؤجل للضحية من الجلاد نبصره جلياً في «مدينة من رماد»: «لقد تعوّدت يا قاسم أن تنظر في عيون الرجال المرتجفين أمامك وتضحك منهم ساخراً. تعوّدت الدم الذي يلطخ يديك، تعوّدت رائحة سردابك المعفن، ولكن أتراك تستطيع هذه المرة أن تحدق في عيني صديقك، بدون أن تشعر بالفزع من نفسك؟ أواه أيها الطحان، أيها الطحان/ أنت صاحب الخان وأنا المسافر».

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى