فن و ثقافة

(غيوم داكنة) لا تمطر: أيمن زيدان ، وهو يصنع واقعيته السحرية السينمائية !

(غيوم داكنة) لا تمطر ..في رواية (بيدرو بارامو) للكاتب المكسيكي (خوان رولفو) يعود البطل إلى قريته على حمار، ولدى وصوله يواجهه الهمس في أنحائها. ليكتشف أن الجميع موتى، وأن هذا الهمس هو همسهم، وأن القرية تاهت في نوع آخر من الزمن!

وإذا كانت هذه المعطيات من ملامح الواقعية السحرية في الأدب نهل منها ماركيز فيما بعد بمهارة، فإن محاكاة الحرب السورية بفن راقٍ تحتاج فعلاً إلى نوع من هذه الواقعية، وفي المشهد السينمائي السوري الجديد (فيلم غيوم داكنة) يصل (الدكتور) إلى قريته في سيارة (يلعب دوره وائل رمضان) وقد نهشت الحرب بنيانها وروح سكانها، أما الأحياء الموجودون فيها، فهما ينتظرون الموت أو يفكرون بالفرار إلى نوع آخر من الموت، والزمن فيها هي ساعة مكسورة لا يستطيع رامز عطا الله إصلاحها إلى في نهاية الفيلم.

هذه محاكاة سريعة للقصة التي كتبها أيمن زيدان نفسه بالتعاون مع ياسمين أبو فخر، لكن السياق الدرامي يأخذنا تلقائيا إلى حكاية من حكايات الحرب على السوريين، وهي حكاية خالدة تربط بين شخوص الرواية بسردية سينمائية قريبة من قصص الحب المعجونة بتفاصيل الحرب المحزنة!

الصناعة الإخراجية

وسواء أعجبك الفيلم الذي أخرجه الفنان أيمن زيدان للمؤسسة العامة للسينما في سورية، أم لم يعجبك، فإن عليك أن تتوقف مليا عند الصناعة الإخراجية التي يشتغل عليها، وهو يقول في أول تعليق سريع كتبه حول العرض الخاص الذي دعانا إليه: “حين جلست ُ أتابع فيلم غيوم داكنة أحسست بجرعة الحزن الساكنة وسط كل تفاصيله…أدركت ُفجأة كم هي متعَبة روحي وكم تركت ْ الحرب آثاراً عميقة نخرت وجداني …. عندما انتهى الفيلم قال لي بعض الأصدقاء كم أحزنتنا ..اجابتي كانت بسيطة …لن يكون متابع الفيلم خارج ما أحسستُ به حين صنعته ..لأنني أحترمك أردتك أن تكون شريكاً فيما صنعت!”

لاحظوا هنا كيف لم يقل (فيلمي) ، أي يريدنا أن نتعامل مع ما شاهدناه بتشاركية، ليتعرف منها على ردود أفعالنا أو انطباعاتنا بصدق ، وهي مسألة نحسها عند أيمن في كل مرة يتقدم فيها بخطوة جديدة في الدراما أو السينما !

في سعيه لتقديم تلك الحكاية، ارتكز أيمن زيدان على ثلاثة معطيات أساسية :
  • تدخله في الحكاية نفسها مع ياسمين.
  • بناء تكوينات وعناصر خاصة بالصورة التي تعبر عن الحكاية .
  • تعامل خاص مع الحرب كخلفية للحكاية دون تناول الحرب نفسها.

وسأبدأ من النقطة الثالثة، لأن النقاد اختلفوا حول آليات التعاطي الإبداعية مع الحرب، فهل نكتب أدبا عنها، وهي في تفاصيلها أقوى من الأدب، هل نصنع أفلاما عنها، وهي في تفاصيلها تفوق أفلام السينما، وثمة رأي كان يتجه إلى تأجيل الكتابة عن الحرب لما بعدها..

الذي فعله أيمن زيدان هو تقديم معالجة جديدة للحرب على السوريين دون الدخول المباشر في قساوتها العسكرية، لجأ إلى تقديم آثارها، وهذا ملعبه . فنجح في تسخير الصورة لتؤسس لبيئة الحرب دون دوي للقذائف أو أصوات للرصاص أو حتى دون أي لحظة خطف خلفا تذكرنا بما نعرفه ولم ننسه عنها!

كان يريدنا أن ننتظر نهاية الحتوتة ، وكأنه يسرد لأطفاله حكاية آسرة ، وقد بدت هذه النقطة واضحة منذ العبارات الأولى التي وردت في الحوار بين الدكتور وسائق السيارة التي عاد فيها في بداية الفيلم. فإذا يرغمنا على انتظار المصير الذي سيلاقيه الدكتور بعد عودته إلى قريته المدمرة، ونسأل عن قصته، لكن الوصول إلى هذا المصير راح يكشف كل الخطوط الدرامية التي تتألف منها الحكاية!

الإنسان الذي يعاني من الحرب

كنا نشاهد آثار الحرب دون دهشة، لكننا نتعرف على الإنسان الذي يعاني من الحرب بغاية الدهشة، فالأقدار التي رسمتها الحرب هي التي يريدها أن تصل إلينا، وهو هنا يتجاوز معضلة أن الذي عاشه الناس خلال الحرب، كان أكبر بكثير وأهم مما تعرضه السينما أو تنقله الروايات .

في النقطة الثانية اشتغل أيمن زيدان على وسائل وعناصر لافتة في بناء أفكاره السينمائية، والتي نعرف جزءا منها في تجربته الإخراجية البهية في المسرح :

أولا : استخدم شخصية المجنون للتعبير عن عبثية الحرب وضبابية وقائعها. فالمجنون (دون كيشوت في صورة أخرى) يتصور نفسه فاعلاً في بقايا الحرب. فيصدر الأوامر إلى عسكر غير موجودين، ويحاكم الإرهاب والخيانة عبر فزاعة الحقول التي يصنعها من بقايا الخراب، وهي هنا لعبة جذابة انتقى لأدائها فناناً بارعاً في تلوين الأداء هو الفنان محمد حداقي. إن هذه اللعبة الفنية هي واحدة من أروع أدوات السخرية استخدمها الفيلم بمكانها!

ثانيا: بنى الصورة مع طاقم التصوير والإضاءة على نحو جديد. فالطبيعة في الصورة مكسورة رمادية، كما هو الإنسان الذي يعاني من الحرب، ضبابية تحجب ألق الحياة والطبيعة وزهوهما  ويعطل النظر إلى المستقبل، وهنا تظهر المحاكاة البصرية الشاملة في تفاصيل المشاهد لعنوان الفيلم (غيوم داكنة)..

وفي تفاصيل الصورة أيضاً استفاد من الجزئيات، فشكل في أحد المشاهد إطارا للمشهد. وكأنه يريد تثبيته في الذاكرة ، فتراجعت الكاميرا لتكشف لنا عبر النافذة صورة في إطار عن وفاء الزوجة لزوجها المشلول، وخارج الإطار نقيض الوفاء للأخت التي تسعى لمعرفة أين هو مال أخيها لتفر به!

نجح في اختياراته على صعيد التمثيل

وعلى صعيد التمثيل نجح في اختياراته، ومرد نجاحه هنا إلى معرفته لمقدرات الممثلين الكامنة التي لم يستفد منها الآخرون، فقام باستحضار وجوه، عادة ما تغيب عن الشاشة لقلة الفرص التي تعطى لها، فلينا حوارنة التي غابت عن أدوار البطولة طويلاً، لعبت دور الحبيبة الصادقة والزوجة الوفية بآن واحد. أدت الدور بمهارة، هي تمتلكها أصلا، ناهيك عن أن الدور يناسبها تماماً، وهنا نسأل : لماذا تستبعدها الأعمال الدرامية الحديثة ؟

استعان أيضا بوائل رمضان للعب دور الطبيب العائد الذي ينتظر الموت، وهنا خرج وائل عن أدواره الأولى. وكان عليه أن يستخدم الصمت والألم للتعبير عن داخله، وإذا عدنا للحوار الذي أداه فعدد الكلمات لن يتجاوز عشرين كلمة ، وهذا يعني أن رهان أيمن على مقدرات وائل كان في محله. والغريب أن وائل ظهر بغير شخصيته التي نعرفها، كان مترهلاً فج الملامح متورم الوجه، وقد غابت عن ذاكرتنا صورة الوسيم الذي يمكن أن يؤدي أدواراً اعتيادية كثيرة في الحياة، أليس هذا اختيارا مهماً !

أما الفنانة لمى بدور، فهي تسعى بالفرص التي تعطى لها بدأب ،فإذا هي نجمة يتكئ عليها المشهد. فتحمله رغم تجاربها القليلة ، وفي لعبة الاختيارات كان رامز عطا لله ونور علي ومحمد زرزور وعلاء قاسم ومازن عباس يستكملون اللوحة، فيؤدون أدوارهم بإحساس عال بمسؤولية الدور الذي يلعبه كل منهم، وعند الحديث عن دور محمد زرزور الناجح نتذكر جود سعيد الذي لعب دوراً فذاً جميلاً مشابهاً في فيلم (أمينة) . لكنه هذه المرة أطل بدور الجندي الذي قطعت ساقه ، ولم يمت ، ولكن الأقدار جعلت أخاه يتزوج من امرأته بعد خبر استشهاده الخاطئ، وجود سعيد هنا يكمل المشهد في أداء الممثلين!

بقي الحديث عن حازم زيدان، فهو في (غيوم داكنة) يرد على موجة النقد التي واجهته بأداء لافت جعله يتجاوز أي تصيد من الآخرين لإشراكه في أعمال أبيه المتميزة .

عودة إلى النقطة الأولى ، أي حكاية الفيلم نفسها، فقد سمعنا عن قصص قريبة منها وقعت في الحرب، جندي يأتي خبر استشهاده، ثم يعود مصابا ليواجه بصدمة غير متوقعة هي زواج امرأته من أخيه.

أعتقد أن تدخل أيمن زيدان فيها هو الذي أعطى الرؤية الكاملة  في مشاهد الحرب التي لا تصدق، فهل نعيدها كما هي أم نبني عليها.. ما فعله أيمن زيدان هو أنه بنى عليها ، فأجاد في أدواته، لكن (اليأس) هو (مقتل الحكاية)، وإن كان هو عنوانها، ونحن نريد أملاً، ولذلك خرج بعض الجمهور من الصالة واجم الوجه .

في فيلم (غيوم داكنة) ردت السينما على المسرح ومقولة سعد الله ونوس الخالدة :

نحن محكومون بالأمل . الرد جاء بعبارة جديدة هي : ((نحن محكومون باليأس !)).

على الحرب اللعنة، وعلى مشعليها سخطنا إلى أبد الآبدين !

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى