«الذئاب» الشاردة: بين الورق والشاشة

 

في زحمة المسلسلات الرمضانية، برزت مجموعة من الأعمال التي نالت متابعة واسعة وحضوراً مميزاً على الشاشات العربية، من دون أن يعني ذلك بالضرورة قوة في قصتها ولا جودة في السيناريو الموضوع لها، أو خلوّها من أخطاء إخراجية ساذجة سببها الاستعجال في إنجاز المسلسل. الممثلون الذين يلعبون أدوار البطولة هم من يجذبون المتابعين في الدرجة الأولى، ويجعلون أسماء الشخصيات تتردّد على الألسن، وصورهم تملأ وسائل التواصل الاجتماعي بغض النظر عن ركاكة السيناريو وتناوب أكثر من كاتب عليه. لدى بعضهم قدرات نبوية تصل لا إلى حالات شفاء صعبة فحسب، بل إلى حد إعادة شخصيات ميتة إلى الحياة!

وسط هذا الدور الثانوي للقصة في المتابعة، حضرت هذا الموسم تجربة نقل عمل روائي إلى الشاشة كخطوة باتجاه إعادة الاعتبار إلى قوة القصة في خضم استعراضات الصورة، من خلال مسلسل «عندما تشيخ الذئاب» (سيناريو وحوار حازم سليمان ــــ إخراج عامر فهد)، المأخوذ عن رواية الكاتب الفلسطيني الأردني جمال ناجي التي حملت العنوان ذاته. حضرت هذه التجربة في السنوات الأخيرة، نذكر كمثال عليها مسلسل «أفراح القبة» المأخوذ عن رواية الأديب المصري نجيب محفوظ، الذي أسهم في إلقاء الضوء من جديد على هذه الرواية وعلى مجمل نتاج محفوظ الكتابي.

لن ندخل هنا فيما إذا كان هذا النقل مفيداً لانتشار الرواية أم مضرّاً لها، فالأمر يتعلق بالمتلقي. مَن يتابعون المسلسلات بناء على أسماء الممثلين الموجودين فيها، لن يهتموا إذا كانت الأحداث مأخوذة من رواية. في المقابل فإن القرّاء سيعودون إلى قراءة هذه الرواية التي غفلوا عنها، مع الإشارة إلى هامش الحرية الأكبر في الرواية التي نحتاج للذهاب إليها، مقابل الحذف الذي طال عدداً من المشاهد الحميمية في المسلسل الذي يدخل البيوت عبر نوافذ الشاشات.

مضت فترة جيدة نسبياً على نشر الرواية (صدرت عام 2005 عن وزارة الثقافة الأردنية، وبطبعة ثانية عن «الدار العربية للعلوم ناشرون» و«منشورات الاختلاف» عام 2010 وقد وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة «بوكر» العربية) التي تعتمد في سردها تيار الوعي، حيث تتناوب شخصياتها على قص أحداثها، مما يمكن أن يكون قد ساعد كاتب السيناريو في مهمته، إذ تتوضح خلال الفصول التركيبة النفسية لكل شخصية وبنيتها الداخلية ونمط تفكيرها.

الرواية سلسلة في لغتها وأحداثها، واضحة في بناء شخصياتها ذات الميول والتوجهات المتنوعة. وعلى الرغم من أنها تجري مطلع التسعينيات، فإنها لم تفقد راهنيتها، حيث تبيّن لنا تعاطي السلطة الأمنية مع التيارات السياسية المناوئة لها، من إسلاميين ويساريين، ومحاولتها كسب وجوه من كلا التيارين واستمالتها إلى السلطة عبر منحها المناصب والنفوذ، بعد مطالبتها بتغيير قناعاتها لتتناسب مع متطلبات السلطة من أجل الإشراك الشكلي للقوى السياسية الأخرى في الحكم. هكذا نجد المعتقل اليساري السابق يصير وزيراً بعدما أضحى رأسمالياً، والشيخ الجهادي الذي حمل السلاح وقاتل في الداخل هو من يقترح الوزراء ويزكّيهم بعدما صار صوفيّاً ومسؤولاً عن الجمعية الخيرية الوحيدة المرخصة. كذلك، هناك اختلاف في البيئة المكانية، فأحداث الرواية تجري في عمّان بينما المسلسل في دمشق، من دون أن يؤثر هذا الاختلاف نظراً إلى تقارب الظروف السياسية في بلدان المنطقة العربية.

قام السيناريست حازم سليمان بطيّ وقص بعض الشخصيات الثانوية في الرواية وتركيز الأحداث في الشخصيات المختارة التي جسّدتها باقتدار مجموعة من أسماء الصف الأول في الدراما السورية كسلّوم حدّاد (الشيخ الجنزير) وسمر سامي (الجليلة) وعابد فهد (جبران) وعلي كريم (أبو عزمي)، إلى جانب مجموعة من الممثلين الشباب الذين أعطاهم المخرج عامر فهد الفرصة ليبرزوا قدراتهم وفي طليعتهم أنس طيّارة الذي لعب بنجاح دور عزمي الوجيه، وهيا مرعشلي (سندس) الجميلة واللعوب المنتظرة طلتها على الشاشة.

يبرز عزمي الوجيه كشخصية مركزية وبطل للرواية من دون ضجيج، ومن دون أن يضطر لسرد أي من فصولها. يكرّسه غموضه وما ترويه عنه الشخصيات الأخرى المعجبة بكاريزمته وذكائه وموهبته في كسب ودّ مستمعيه، ونعرف من خلالها كل شيء عنه، أولها سندس، عشيقته والزوجة السابقة لأبيه المفترض، والشيخ الجنزير، أبوه الروحي وربما البيولوجي أيضاً، ومن ثم غريمه الذي يسعى لتصفيته لأنه بزّه في كل شيء، وخاصة في الفوز بسندس.

أما في المسلسل، فقد تم توزيع البطولة على بقية الشخصيات التي لا يمكن ألا تسرق الأضواء بثقل حضورها وتراكم رصيدها السنوي، كالشيخ الصوفي (سلوم حداد) عاشق النساء ومتع الحياة الأخرى التي يحصل عليها بأموال التبرعات التي يقتطع لنفسه حصة وازنة منها يشارك بها في عدد كبير من الشركات والمصانع، وجبران (عابد فهد) الذي نراه بشخصيتين: الأولى صامتة ومنكسرة وعاطلة عن العمل، هي بقايا اليساري المعتقل والخائب، والثانية منطلقة من دون حماس أو قناعة بعدما هبطت عليه ثروة أبيه المنسية، محولة إياه إلى رأسمالي يسكن أرقى الأحياء ويجالس كبار الشخصيات في عالم الاقتصاد والسياسة

في المسلسل ثمة محاولة أوفى لفهم الأشخاص ذوي الميول الإسلامية المتشددة، لناحية أسباب نشوء هذه الميول عندهم. عزمي غير الجامعي في الرواية الذي اتّبع مبكراً الشيخ الجنزير، نراه في المسلسل جامعياً متفوقاً في الحقوق، لكن صعوبات العمل تواجهه بسبب الماضي السياسي لخاله جبران، وبسبب استحيائه من أبيه كاتب الاستدعاءات على الرصيف أمام القصر العدلي، فيبدأ يتنازل عن طموحاته الكبيرة التي غرستها في رأسه أمه الجليلة، كي تستعيد من خلاله ماضي أسرتها العريقة، فيصبح شخصاً تائهاً وغير متيقن من شيء.

ويتابع الشيخ الجنزير كل ما يجري مع هذا الشاب النبيه ويسهم في سد فرص العمل في وجهه، كي يكسبه للعمل في مؤسسته الخيرية. وهو ما ينجح به أخيراً، خاصة بعد موت أمه، ثم يدفعه لأن يصير مثله لناحية الإتجار بالدين في سبيل تحقيق المنافع الشخصية بعدما اكتشف عزمي سرقات الجنزير، ثم إلى التطرف والتسلح والعمل في التهريب وكل ذلك مدعوماً بالفتاوى الشرعية المبررة والمحللة. تبقى النهاية الموضوعة للرواية أقوى من نهاية المسلسل. إذ يظل هوى سندس متحكماً بقلب الشيخ وكيانه حتى نهايته في مكة التي ذهب إليها للحج والتكفير عن ذنوبه المتراكمة، فيما يبدو أنه ينجح في الشفاء منه في آخر المسلسل أو يحاول ذلك.

 

 صحيفة الاخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى