«المفتّش» أندريا كاميليري ظل وفياً للتوماتزو والنبيذ الأحمر

 

«المحقق مونتالبانو» ليس معروفاً في العالم العربي مثلما هو معروف في إيطاليا والعالم. وقد ينسحب هذا غالباً على مخترع الشخصية وكاتبها أندريا كاميليري (1925 ـــــ 2019) الذي رحل قبل فترة. ويمكن الافتراض بأن ليوناردو شاشا (1921 ـــ 1989)، أحد أوائل الكتاب الإيطاليين الذين كتبوا عن المافيا، والذي دفع كاميليري نفسه إلى الكتابة، ليس معروفاً هو الآخر. بين الجيل العريض من الكتّاب الصقليين الذي يمتد من منتصف القرن التاسع عشر إلى أيامنا، يبدو أن لويجي بيرانديللو (1867 ــــ 1936) ما زال الأشهر، ربما لكونه حاز جائزة «نوبل» للآداب قبل الحرب العالمية الثانية بسنوات قليلة. وربما لأن صقلية في مخيّلات غير عارفيها ما زالت ضحية «العرّاب».

مفارقات كثيرة تجمع الكتاب الصقليين وتفرّق فيما بينهم، تستجمع نفسها وتحضر بقوة في وداع أندريا كاميليري. تكريماً لهذا الكاتب، أضيف إلى قريته في باليرمو اسم «فيغاتا» ـــ القرية التي اخترعها ـــ ونُصب في وسطها تمثال لبطله المحبوب في إيطاليا: المحقق مونتالبانو. والأخير معروف هناك أكثر من فرانشسكو توتي، والمحبوب قطعاً أكثر من ماتيو سالفيني. وهناك تمثالان. واحد لبيرانديللو الذي ناشد موسوليني ذات يوم، وتمثال لمونتالبانو عدو الفاشية، الذي استخدمه كاميليري ليتحدث باسمه وباسم الصقليين. المفارقات تتسع في جزيرة السِحر والحقيقة. لكنها تضيف إلى المعنى دائماً، ولا تستطيع قضمه.

يعتقد أومبرتو ايكو أنّ هناك ثلاثة أسباب رئيسية تدفع القراء والمهتمين للتعلق بقصص الجريمة والتحقيق. ولأن الجلوس في رأس إيكو أصعب من الجلوس في أي رواية، يستحيل التكهن. يجب الدخول مباشرةً في الموضوع من الزاوية التي اختارها ايكو. السبب الرئيسي هو الأبعاد الميتافيزيقية في جوهر الرواية. إلى ذلك يقول السيميائي الكبير إن ثمة ميلاً علمياً يدفع القارئ للاعتقاد بأنه يبحث مع الكاتب عن الجريمة وعن الحقيقة. وفي الأدب الذي لا يمكن استبعاده كسبب لحبّ الرواية حتى لو كانت عن الجريمة، فالفارق ينحسر بين الأخيرة وبين الحقيقة حيناً، وفي أحيان أخرى يصير السرد جسراً كذلك الجسر الكانطي بين الأخلاق الذاتية والأخلاق الموضوعية. الكتابة عن الجريمة وعن التحقيق متصلة بالمافيا، والمافيا قد تبدو لكثيرين متصلة بصقلية. لكن هذا ليس صحيحاً. ما يثبته الكتاب الثلاثة الذين نتحدث عنهم (لويجي بيرانديللو، ليوناردو شاشا، وأندريا كاميليري) – من بين مجموعة كتاب صقليين – هو اتصال صقلية بنفسها في الرواية، وقدرة الرواية نفسها على الاتصال بالمكان. ما يقوله ايكو ينسحب على ماريو بوتزو ربما، خاصةً بعدما اكتشفه كوبولا، وسرد جزءاً من تاريخ الهجرة إلى العالم الجديد عبر أبطال صنعتهم الطبيعة الرأسمالية لأميركا، ولم تصنعهم صقلية. لكن الفصل بالنسبة لكثيرين صار مستحيلاً، إلا في حال قرأوا ليوناردو شاشا والغائب الكبير عن إيطاليا وعن العالم، أندريا كاميليري.

من بيرانديللو إلى كاميليري: جسر الأيديولوجيات

ولد كاميليري في بورتو ايمبيدوكلي. وهي القرية التي يعرفها بيرانديللو جيداً كونه لجأ إليها في أولى مراحل حياته وناضل منها من أجل الوحدة، منتصف القرن التاسع عشر. النصب الخاص به ما زال يستكين في قلبها. لكن هذه ليست العلاقة الوحيدة بين الكاتبين الكبيرين. فوالد كاميليري، جوسيبي، شارك هو الآخر في الزحف الفاشي الشهير إلى روما، مثلما زحف بيرانديللو إلى مكان استغرب الجميع لاحقاً وجوده فيه وهو على عتبة أيامه الأخيرة. زحف إلى الفاشية نفسها. سيحتاج تفكيك وجود بيرانديللو هناك إلى دفاع كبير من محبّيه عنه، ويثير السؤال المعتاد عن إمكان الفصل بين الكاتب وبين أعماله. لكن عملياً، اكتسب بيرانديللو شهرته بعد «هنري الخامس». قبل ذلك كان كاتباً عادياً من الطبقة الوسطى، أو قادراً على الأقل بسلوكه ادعاء الانتماء إلى هذه الطبقة. في ذلك الوقت، كانت هناك خصائص محددة وملامح واضحة لهذه الطبقة في إيطاليا تحديداً. في مطلع القرن الفائت كانت الطبقة الوسطى التقليدية، تعتقد أن الفاشية هي الحالة المؤهلة للتصدي للبلشفية. وهذا من ضمن محاولات التبرير الكثيرة التي أسبغها النقاد المحبون لأعمال الكاتب الإيطالي على خياراته. كان ينتمي إلى الطبقة «القلقة»، ولم يكن قد استيقظ بعد من صدمة نتائج الوحدة، التي لم تكن ربيعية تماماً. يمكن خوض نقاش مواز وجدّي عن البروليتاريا الإيطالية ووعيها، لكن ذلك يبعدنا عن بيرانديللو كثيراً.

نظراً إلى ولادته في أوائل القرن العشرين، فإن أندريا كاميليري لم يكن خارج هذه المعادلة. في عشرينياته، كان القرن قد صار في منتصفه، وعرفت إيطاليا نوعاً من «ردة» ثقافية يسارية باتجاه الشيوعية، في موازاة صعود حركة ليبرالية هادئة. كان الأمر أشبه بتوبة جماعية غير معلنة من الفاشية، حتى أن مصطلح التوبة بقي رائجاً في الأدبيات الإيطالية. مع الوقت، اكتسب سمة فردية، لكنه في نشأته مصطلح بدلالات جماعية. هذا الخيط «الرفيع» الذي يربط بيرانديللو بكاميليري أو بجيل «عريض» من الكتاب الإيطاليين خصوصاً، ومن أنتجلنسيا إيطالية لم تقم على وعي بذاتها برأي كثيرين. كان الصراع على الأيديولوجيا. ولا يعني ذلك الماركسية لوحدها، خاصةً أننا نتحدث عن بيرانديللو. هذا الخيط ترهل وعلى الأرجح انقطع في أماكن عديدة. الجيل الإيطالي الذي يلتزم بقضايا سياسية كبيرة لم يعد موجوداً تقريباً، وإن كان الجيل المسيّس، حتى في عز ماركسيته، إيطالياً في نتاجه، أكثر من كونه كوزموبوليتانياً.

ليوناردو… وليس «نانا»

ما اكتشفه بيرانديللو بعد روما، هو أوهام الوحدة بصيغتها التي وقعت. وكونه كان كاتباً فهذا يعني أنه كان قادراً على الغرق في الوهم والخروج منه لأنه وهم. لكن كانت ثمة حسنة أساسية: تعرّف إلى المسارح الكبرى في عاصمة العالم. في واحد من هذه المسارح، وذات يوم، سيحضر أندريا كاميليري صمويل بيكيت أول مرة إلى إيطاليا. التحق الكاتب الشهير بعد الحرب بالحزب الشيوعي، وهذا تقريباً مألوف في إيطاليا في خمسينياتها. كان في سياق التطهر الجماعي الطويل من الفاشية. لم يكن إنجازاً، ولكن هذا لا يعني أن كاميليري ليس لديه أية إنجازات في بداياته. حتى سبعينياته كان كاميليري، وهذه مفارقة أخرى، مجرد مخرج لأعمال لويجي بيرانديللو. لكن حجم التأثير يبقى محدوداً، لأنهما عملياً من زمانين منقطعين. تقريباً ليوناردو شاشا هو النقلة النوعية في الأيديولوجيا بعد بيرانديللو، وكاميليري بسرده الهادئ والخالي من انفعالات شاشا هو استواء هذه النقلة في الرواية.

أشياء كثيرة تحدث في صقلية، تُغني الكاتب عن الخيال أحياناً. ليس بحاجة لأن يخترع الأحداث أو أن يتخيّلها. إنها موجودة أمامه أو خلفه، وفي كل مكان. ينبغي أن يلتقط هذه القصص وحسب. لهذه الأسباب، ربما، ولغيرها، ليوناردو شاشا هو الذي نصح كاميليري بالكتابة. كانت نصيحة عبثية لا تخلو من الجدية. ذات يوم، فاجأ كاميليري صديقه ببعض المعطيات الهامة، فقال له شاشا: «لماذا لا تكتبها بنفسك». ولم يكذب كاميليري خبراً. حتى إن شاشا، قدم مخطوطة الرواية التاريخية الأولى (عنوانها: «المجزرة المنسية») بنفسه إلى الناشرة في باليرمو. صحيح أن الذي يقرأ كاميليري، سيشعر أن مونتالبانو لا يتحدث دائماً باسم الكاتب، إنما باسم باليرمو. لكن بالمقارنة مع كاميليري، كان شاشا حاداً في لغته، وراديكالياً في طباعه وآرائه. على الأقل هذا ما يقوله الرفيق أندريا الذي يعد نفسه صديقاً للرجل الذي نصحه بالكتابة، من دون أن يبالغ. فقد كان صديقاً من «الدرجة الثانية». كان من بين الذين ينادونه ليوناردو، وليس من أصدقاء الدرجة الأولى الذين ينادونه «نانا». لم يكن بيرانديللو سياسياً حسب معاصريه، بل كان يحاول أن يكون سياسياً. شاشا كان سياسياً بامتياز، وكاميليري وقف في المنتصف. وما يجمعهم ثلاثتهم خلافاتهم أو اختلافاتهم مع الحزب الشيوعي الإيطالي، بدرجات مختلفة، خاصة في حالة شاشا. «يوم البومة» كانت أول رواية عملياً ضد المافيا الصقلية. لكن الكوزا نوسترا لا تهتم بالروايات ولا يخيفها الروائيون. ما كان يخشاه «نانا» هو السياسة، ولم يكن المافيا. تلك الصدمة الأولى للإيطاليين عن تورط السياسيين في العمل مع المافيا وحصولهم على ألقاب الشرف. كانت صدمة هائلة على غرار الصدمات الثلاث للإنسان المتدين في العصر الحديث حسب شايغان. ثم عاد ليوناردو شاشا واختلف مع كاميليري في مسألة التسوية التاريخية بين الديموقرطيين المسيحيين والحزب الشيوعي. لكن هذا نقاش طويل يشذ كثيراً عن الأدب ويأخذه من أذنيه إلى السياسة. في الأدب الخالص، كان شاشا واضحاً إلى أكثر درجات القسوة.

مونتالبانو ضدّ «العرّاب»

اختار كاميليري محققاً ليكون بطله الطويل. لا لكي ينتمي إلى الدولة، حتى وإن لمح غرامشي إلى ضرورة تعزيز الحضور في هذا الجهاز من أجل مصالح طبقية نبيلة، إنما لأن يكون بطله ضدّ المافيا وليس من صناعتها. لكي يشير إلى جوانب أخرى في صقلية، خارج الكليشيهات التقليدية عن المافيا. طرافة المفتش ضدّ أسطرة الشر، هذا هو مونتالبانو ببساطة. وهذا ما يميّز أعمال كاميليري عن أعمال سابقيه. رفضه لأسطرة أبطال المافيا. يتضح هذا تقريباً في جميع رواياته، وحسب النقاد صار منهجاً. أراد إظهار صورة أخرى لصقلية، خارج إطار الأسطورة الهوليودية، تحديداً تلك الخاضعة لتأثير «العرّاب» القوي، نتيجة حرفة كوبولا والأداء المذهل لبراندو ودي نيرو وآل باتشينو تباعاً.

ورغم أنه ليس فيلسوفاً، أو أديباً شاعرياً، إلا أن قدرة كاميليري على الحبك، شقت طريقاً لمونتالبانو إلى قلوب الإيطاليين. ترجم إلى لغات كثيرة، ويمكن القول إن أندريا كاميليري مشهور رغم أنه لم يفز بجائزة «نوبل». صحيح أن شهرته تبقى في إطار محلي وليست عالمية مثل ميلان كونديرا الذي ارتفع صيته فوق صيت التشيكيين الآخرين وكتاب أوروبا الشرقية بسبب ذهابه إلى الغرب، وبسبب معركته مع الشيوعية، في وقت احتاج فيه الغرب إلى الشخصية الكونديرية، واحتاجت هذه الشخصية أيضاً إلى الغرب بدورها ليتسنى لها الخروج إلى الضوء. وليست مثل الياباني هاروكي موراكامي نظراً للطابع الاكزوتيكي للأخير، وقدرته على المزج بين يابانيته وبين الطبائع الغربية. أندريا كاميليري بقي إيطالياً، وبكلمات أدق بقي صقلياً. لقد استطاع مونتالبانو الاستمرار دائماً، وفي قدرته هذه على الاستمرار ربما نجد تفسيراً لنزعة إيطالية كامنة في بنية المجتمع التحتية، تقوم على رفض التغيير السريع، ولكنها غير قادرة على مقاومته تماماً. مونتالبانو يحب الطعام، وطبعاً لا يعني هذا أن الكليشيه التعميمي عن الإيطاليين دقيق. لكن مونتالبانو صقلي. رفض «الفاست فود»، وأبقى حنيناً خاصاً للتوماتزو والنبيذ. يقول بعض النقاد إن مونتالبانو كان جشعاً في ما يتعلق بالطعام، ولكن هذا ليس صحيحاً بالضرورة، وهو إطلاقي ومتعسف.

أحداث كثيرة عايشها مونتالبانو في روايات مؤلفه، لم تخلُ من التعسف. وليس هذا بالضرورة ما عايشه كاميليري شخصياً. فمونتالبانو عايش التحول من الليرة إلى اليورو وإيطاليا بمآزق وحدتها إلى الاتحاد الأوروبي بمآزق وحدته. عهد برلوسكوني الذي هو تتويج للأزمات الطويلة. فوز إيطاليا بمونديال 2006 على وقع الكالشيوبولي مثلما فازت في 1982 بمساعدة من باولو روسي الذي خرج من السجن إلى الملعب، ولعب الورق على الطائرة العائدة من إسبانيا مع الرئيس. وطبعاً لا يمكن أن تحلّ سيرة برلوسكوني من دون أن ترافقها اللعنة. يفتخر كاميليري أنه من أوائل مستحضري نوبرتو بوبيو، وهذا يثير سجالاً حول ماركسية كاميليري، خاصة أن المتفلسف بوبيو كان يقول إن الماركسية تفتقد إلى نظرية عن الدولة وعن الديموقراطية. بلا شك تحدث غرامشي كثيراً عن العلاقة مع الدولة وبدرجة أقل عن العلاقة بين البروليتاريا والدولة. لكن كاميليري كان متأثراً في سبعينياته بنظريات بوبيو وليس بنظريات غرامشي. ذلك أن مونتالبانو كان محققاً ويعمل في الدولة. في الواقع ثمة أهم من هذه القراءة في نظري للعلاقة بينهما، وهو الإشارة العملية المتمثلة بتوقيع كاميليري على مانيفستو بوبيو ضدّ وصول برلوسكوني إلى الحكم. يفتخر كاميليري أنه كان من أوائل الموقعين ويحزنه بذات الدرجة أن الأمر استغرق كل هذا الوقت ليعرف الإيطاليون آثار البرلوسكونية التي تتجاوز فترة حكمه بكثير. والذي يريد أن يتعرف إلى رأي «المفتش مونتالبانو» بمآثر السيد سيلفيو، عليه أن يقرأ رواية «نمر من ورق».

ليس فقط برلوسكوني هو التمثيل الوحيد للفساد في السياسة الإيطالية المعاصرة. مونتالبانو نفسه يسخر من حجم تأثير الكنيسة في «دولة علمانية». في رواياته الكثيرة، لطالما كان الموقف أهم من الأدب. لغوياً وألسنياً، أحياناً يكون كاميليري إيطالياً، وفي أحيان أكثر يكون صقلياً. الفارق في لغته هو الفارق نفسه بين ايطاليا وصقلية. السرد مكتفٍ بذاته وليس بحاجة إلى التكلف. في إحدى رواياته، يقول مونتالبانو إن السيستم في إيطاليا يقوم على عاملين خارجيين أساسيين: أميركا والكنيسة الكاثوليكية. يحب «مونتالبانو» الصراحة مثل صقلية، لكن إيطاليا قد تفضّل السِحر أحياناً. والسِحر ليس صريحاً دائماً. أما عن الصراحة، يقول فيتوريو نيستيكو إن الصقليين نوعان، من الصخر ومن البحر. الصخر يقود إلى الصخر، أما البحر فيجيئ ويذهب. وهكذا هي الرواية الصقلية ربما منذ مئة وخمسين عاماً. تتأرجح تحت الشمس، من البحر إلى الصخر، ذهاباً وإياباً.

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى