«زمن الرواية» … نموذجاً لأفكارٍ تأكل أصحابها

هل الأشخاص يصنعون أفكارهم أم أن الأفكار تختار أشخاصها؟ هو سؤال أجده جديراً بأن يطرح بشأن مقولة «زمن الرواية» التي ارتبطت في ذهن القارئ العربي بجابر عصفور، بل تكاد تختزله ومنجزه النقدي في ذهن البعض. لا يشغلني مدى دقة نسبة هذه المقولة لجابر عصفور أم لمحسن جاسم الموسوي – مثلاً- في كتابه «عصر الرواية» السابق تاريخياً على كتابات عصفور ومجلدى مجلة «فصول» القاهرية المخصصين للحديث عن زمن الرواية أم لغيرهما. فما يشغلني حقيقة هو هل هذه المقولة ما زالت تستحق أن تكون فكرة؟ أم أنها تسطّحت من تلقاء ذاتها وفقدت جدارتها، فأمست تابوتاً أو صنماً لا يستطيع جابر عصفور نفسه أن يمنع الناس من عرض أفكارهم عليه ومقارنة أفكار الآخرين بالفكرة الميتة الساكنة داخل التابوت.

إن الفكرة الميتة لا يُحكم عليها بمدى صحتها من خطئها أو بعدد المتفقين معها أو المختلفين حولها، فموتها ناجم مِن كثرة الاستهلاك مِن المتفقين معها والمختلفين حولها استهلاكاً لم يفض إلى إنتاج أفكار أخرى. فلأن الموتى غير قادرين على ولادة آخرين، فإن الأفكار الميتة غير قادرة على ولادة أفكار أخرى. هي مكتفية بذاتها في حال السكون داخل تابوت. والفارق أن الموتى يتحللون ويتحولون لعناصر تأكلها التربة، بينما الأفكار الميتة تأبى أن تتحلل في أي تربة لأنها محنّطة داخل تابوت يسكن عقل متلق ما.

 وحتى أكون أكثر دقة، فالفكرة الميتة غير قادرة على إنتاج مختلفين معها، بل ما تفعله أنها تصف وترصد واقعاً ما، وهذا الوصف يقره الكثيرون، ويعترض على الواقع المرصود كثيرون أيضاً. فالاعتراض على الواقع المرصود لا يمنح الفكرة الميتة شرف أن تكون فكرةَ أنتجت مختلفين معها، متحفزين لاستيلاد أفكار أخرى منها.

إن الأفكار حين تموت تتحول إلى مقولات فتتوحش، والوحوش لا يمكن ترويضها بسهولة، فهي لا صاحب لها ولا ولاء لها، فلا تميز المقولات المتوحشة بين منْ أطلق سراحها للمرة الأولى، أو من قاوَم وجودها. المقولات المتوحشة تأبى إلا أن تكون متسيّدة، تتأله من دون معجزات لها سوى أنها ساكنة في تابوت العقل منذ زمن بعيد.

 لقد تحولت فكرة «أننا نعيش زمن الرواية» إلى مقولة تتردد على الألسنة منسوبة إلى ناقد ومفكر له الكثير من الأفكار الجديرة بالتأمل والمراجعة، لكن الفكرة التي تحوّلت وصارت مقولة توحّشت فأكلت منْ أطلق سراحها قبل غيره. ماذا لو تأمل كل ناقد وهو يسطر أفكاره متسائلاً أي فكرة كتبتها يمكن أن تأكلني؟ لا شك في أن تحول فكرة إلى مقولة يجلب لصاحبها لبعض الوقت شهرة وسلطة رمزية، لكن يبدو أن التساؤل عن الثمن المدفوع مقابل هذا الارتباط بين ناقد له منجزه النقدي، وبين فكرة صارت ميتة هو تساؤل مشروع، وقد يدفع البعض إلى التوجس خوفاً من أفكاره وهو ينتجها أو وهي تختاره منتجاً لها أو مُطلِقاً لسراحها.

وماذا يمكن أن يفعل منْ يخاف على نفسه من أفكارٍ قد تأكله؟ هل يقوم بوأدها في المهد؟ هل لديه الإرادة الكاملة التي تمكِّنه من كبْتِ فكرةٍ يعرف أنها ستختزله مستقبلاً؟!

الأكثر إثارة للتفكير؛ ماذا يمكن أن يفعل ناقد مع أفكاره بعد تحولتها إلى مقولات متوحشة تنهش منجزه أمام عينيه، وتسلسل عقول آخرين وتربطهم في وتده من دون إرادته ومن دون إرادتهم.

إن الفكرة الميتة غير قابلة للمراجعة؛ لأنها ما كانت سوى وصف لواقع مشهود، لكنه مختلفٌ حوله لاختلاف الرغبات والأهواء والأذواق. كل مراجعة لفكرة ميتة، وإن جاءت ممن أطلق سراحها للمرة الأولى، لن تُحيي المقولة وتبث فيها حياة فتكون فكرةَ قادرةَ على إنتاج مختلفين حولها أو قابلة لاستيلاد أفكار أخرى منها، فمراجعة المقولات هي بمثابة منشطات فائقة القوة تزيد الوحوش وحشية وتفتح شهيتها لمزيد من الضحايا.

 إن «زمن الرواية» فكرة ماتت وتوحشت، لكنها في طريقها أكلت منْ أطلق سراحها، ونهشت في منجزه النقدي الجدير بالتأمل، ولم تكتف بذلك بل لا زالت تتوحش وتأكل كل من يرصد واقعاً تهيمن عليه الرواية في شكل واضح مقارنةَ بغيرها من الأنواع الأدبية. لم تكن عبارة: «نحن نعيش في زمن الرواية»، مجرد فكرة أطلق جابر عصفور سراحها، وإنما يبدو أنها الفكرة التي اختارت صاحبها. كيف؟

يبدو أن الرواية نوع أدبي استطاع أن يأكل غيره من الأنواع الأدبية وغير الأدبية فتمددت ذاته وتعددت ماهياته لتشمل بعضاً من الشعر وبعضاً من المسرح وبعضاً من القصة القصيرة وفيه من السينما وفيه من الفن التشكيلي وفيه من المقالة… إلخ. إن هذه الطبيعة الاستحواذية للرواية في علاقتها بالأنواع الأخرى كانت في حاجة إلى مقولة تمثل المعادل النقدي، ليس ليرصد الطبيعة الاستحواذية للرواية فحسب، وإنما ليمكِّن لها في الأرض. ولعب جابر عصفور- لا شك- دوراً في ذلك مؤمناً بدقة رصده، ومستجيباً لضغط الوحش النوعي وطبيعته الاستحواذية على غيره من الأنواع.

لكن لا يمكن اختزال الأمر في القول بأن مناصب عصفور السابقة كرئيس تحرير مجلة «فصول» أو أمين المجلس الأعلى المصري للثقافة، هي سبب الطبيعة الاستحواذية للرواية وتوحشها على حساب الأنواع الأخرى، ذلك لأننا جزء من العالم. وتوحش الرواية عالمي، وأي محاولة لرصد أنصبة الأنواع الأدبية وحضورها في المشهد العالمي سوف تصل إلى تكرار المقولة المتوحِشة نقدياً.

 لا شك في أن ثمة عوامل تتجاوز الطبيعة الاستحواذية للرواية ساهمت في التمكين لها في المشهد الأدبي، وأعتقد أن من بينها هو أنَّ العالم وصل منذ عقود عدة إلى نظام لإدارته يتسم باستبداد مشرعن وله مسوغاته الثقافية والقومية وله مصالحه المتشابكة اقتصادياً، وأن فضَّ الاشتباك ليس هو الغاية بمقدار ما أصبحت الغاية هي تمثيل الاشتباك وديمومته من دون وصول إلى تغيير في ماهية النظام. وقد لبّى نوع الرواية احتياجات العالم فتمّ التمكين له عالمياً لتبارك المؤسسات محلياً وعالمياً ما التهمه من أنواع أخرى لم تكن في خدمة «النظام العالمي» واحتياجاته الجمالية «المتسقة» مع واقع يومي.

 

صحيفة الحياة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى