شاعر سكناه الضادّ ووطنه العروبة الحضاريّة

 

هو شاعرٌ وروائيّ وقاصّ وصحافيّ ومفكّر عروبيّ كبير ظَلَمَه الإعلام العربيّ بهذه الكيفيّة أو تلك، لكنّه حفرَ لنفسه مكاناً مشرِّفاً في الخارطة الأدبيّة والثقافيّة العربيّة، انتزعَ من خلاله اعتراف الكثير من النقّاد والدّارسين العرب، وخصوصاً المُتابعين منهم للمرحلة الثقافيّة العربيّة الوسيطة أو ما قبل الوسيطة من القرن الفائت، التي سبقت ثورة الشعر العربي الحديث، ومعه السرد العربي الحديث بوجهَيه الروائيّ والقصصيّ، فضلاً عن النصّ النقديّ المُغاير، الذي شكَّل لاحقاً إبداعاً على الإبداع كما يقولون، مع أنّ شاعرنا كان شهدَ بدايات ذلكم المخاض أو الصراع الشعريّ المُحتدِم بين اتّجاهَين: تقليدي مكرور وجديد مشتقّ عنه، لكنّه ظلّ بإزائه، مُجدِّداً على طريقته النيوكلاسيكيّة.

إنّه عبد الله يوركي حلّاق، ابن مدينة حلب والمولود فيها في العام 1911 والذي رحل عنها في العام 1996. تلقّى علومه المُختلفة، ولاسيّما مبادىء العربيّة والفرنسيّة، في المدارس الحلبيّة التّابعة لأوقاف الروم الكاثوليك، وفي مقدّمتها ثانويّة القدّيس نيقولاوس الكبرى. وبعدها بمدّة شبه طويلة، وتحديداً في العام 1950، يمَّم شطره أرض مصر ليَدرس فيها ويتخرّج في “كليّة الصحافة المصريّة” في القاهرة بشهادة دبلوم صحافة بدرجة جيّد جدّاً.

مبكّراً كَتَب عبد لله يوركي القصيدة، وجلّى فيها. كان له من العمر 15 عاماً حينما لفتَ بقصائده مَن هُم حوله من قرّاء الشعر ومتذوّقيه المُحنّكين. كما كتبَ المسرحيّة والقصّة بلغة مُفارِقة وجديدة، وكان ينشر نصوصه الإبداعيّة بالتّتابُع في جريدة “التقدّم” الحلبيّة، ثمّ لاحقاً – بعدما نضجت تجربته – في العديد من المَنابر الصحافيّة والأدبيّة العربيّة، داخل الوطن العربي وفي المَهاجر، وقد جاوزَ تعداد المَنابر التي نشر فيها ما يزيد على الـ 200 مطبوعة.

كما شاركَ في مهرجاناتٍ شعريّة كبرى في سورية ولبنان والعديد من البلدان العربيّة والأجنبيّة، ولاسيّما في أوروبا وأميركا اللّاتينيّة. ومن المهرجانات التي حقَّق فيها حضوراً إبداعيّاً مرموقاً، وخطفَ حماسة جمهور الشعر وتصفيقه، مهرجان تكريم الأخطل الصغير في لبنان في العام 1935، ومهرجان المتنبّي في حلب أواخر الستينيّات، ومهرجان ذكرى الشاعر فوزي المعلوف في زحلة في العام 1935. كما شاركَ في مهرجان الشاعر شفيق المعلوف في زحلة أيضاً في العام 1977.

كما أسهمَ شاعرنا في وقائع “المؤتمر العربي الأميركي الرابع” (فيا آراب) في عاصمة فنزويلّا كراكاس في العام 1979، وهناك التقى بالشاعر اللّبناني/ الفنزويلي فؤاد الخشن (1924 – 2009) الذي قال فيه لكاتِب هذه السطور حين سأله عن شعريّة عبد الله يوركي حلّاق بالقول: ” إنّ هذا من فحول شعراء العرب المُعاصرين، وخصوصاً لجهة قصيدِهِ القومي والحضاري العربي. وهو قصيد يتمتّع بالانسجام والتجانس والرؤية الشعريّة المؤسَّسة على جذور عروبيّة تاريخيّة عميقة، ومهاد سياسي اجتماعي واسع الاستجابة والاستيعاب المسبّق. والشاعر حلّاق هو من الذين جاوروا الشعر العربي الحديث بقصائدهم الكلاسيكيّة باقتدار، مثله في ذلك مثل الشعراء: محمّد مهدي الجواهري، بدوي الجبل، سعيد عقل، علي الشرقي، عمر أبو ريشة وغيرهم.. وغيرهم. لكنّه ظُلم إعلاميّاً مقارنة بهم”.

ومَن يقرأ شعر عبد الله يوركي، يجد أنّ الشاعر يعطي دروساً للجميع في جعل العروبة الحضاريّة عنواناً موحّداً لمختلف أديان الأمّة العربيّة وطوائفها ومذاهبها و”مِللها” و”نِحلها”. وعامل التوحيد الثقافي العروبي هنا، هو الذي يحفظ الهويّة العربيّة ويبقيها على تماسكها في الحاضر والمستقبل؛ عِلماً أنّ العروبة الحضاريّة، هي، ولا شكّ، هويّة متحرّكة، متجدّدة، إنسانيّة ولا تعرف العصبيّة والضيق. لنسمعه يقول في العروبة والتوكيد عليها، وعلى أنّ وجهة المحراب عنده هي هيكل فيه عيسى والنبي العربي:

عربيُّ عربيٌّ عربيٌّ ولي الفخر بهذا النسَبِ

مذهبُ الفرقةِ لا أعرفه فاخشعوا إن تسألوا عن مذهبي

أنا صبّ تيّمتني لغةٌ صانها القرآن أسمى الكُتب

وِجهةُ المحراب عندي هيكل فيه عيسى والنبيُّ العربي

وللشاعر قصائد أخرى في التسامُح الديني الإسلامي المسيحي وإعلان حبّه العميق للرسول العربي الكريم، ودائما على قاعدة العروبة الجامعة وتعزيز لغة الضادّ:

 

إنّي مسيحي أجلّ محمّداً

وأراه في سفر العلا عنوانا

وأطأطىء الرأس الرفيع لذكر مَن

صاغ الحديث وعلَّم القرآنا

إنّي أباهي بالرسول لأنّه

صقلَ النفوس وهذّب الوجدانا

ولأنّه حفظ العروبة وابتنى

للعُرْب مَجداً رافقَ الأزمانا

أمعزّز الفصحى ومُطلع شمسها

ذكراك عيد يُذهب الأشجانا

ويقول في قصيدة أخرى له:

إنّا نصارى من سلالة يعرب

فاسأل يٌجبْك المجد والإكبار

عشنا على دين المروءة والندى

والمسلمون رفاقنا الأبرار

 

أمّا القدس، فكان لها نصيبها المتميّز في شعره ونثره وخطاباته، وخصوصاً أنّه كان زارها – كما يقول – يوم كانت تنعم بحريّتها وعروبتها؛ ووقفتُ على مرتفع من مرتفعات قسمها الشرقي، وفي فؤادي وعينَي صورة “أبي عبد الله الصغير” وهو يُلقي نظرته الدامية على مدينة غرناطة، وقصر الحمراء، وجنّة العريف. ويردف: كيف لا أحبّ القدس وأجلّها، وفيها ضريح السيّد المسيح، وكنيسة القيامة، ودرب الآلام الذي سلكه الفادي الحبيب حاملاً صليبه إلى جبل الجلجلة؟!. كيف لا أحبّ تلك المدينة العربيّة الطيّبة وفيها جامع عمر، والمَسجد الأقصى، وقبّة الصخرة، ومِعراج النبيّ العربيّ الكريم؟!

مجلّة “الضادّ

أسّسَ الشاعر عبد الله حلّاق، وهو في العشرين من عمره، مجلّة أدبيّة – ثقافيّة سمّاها “الضادّ”، تيمّناً بالعربيّة التي كان يعشقها حرفاً.. حرفاً وكلمة.. كلمة، كيف لا وهي لغة البيان والبلاغة والتراث العربي العريق، شعراً ونثراً وقرآناً ومُعتقدات؟!. كما أنّ العربيّة هي لغة الابتكار والتجديد والإبداع في مختلف صنوف الأدب والنقد والثقافة والعلوم الإنسانيّة.

شكّلت المجلّة، التي صدرت في العام 1931، محور حياة شاعرنا الفكريّة والثقافيّة؛ غدت مَسكنه، بل وطنه الحميم، وخصوصاً بعدما جعلها مَنبراً شعريّاً وأدبيّاً ونقديّاً واجتماعيّاً وتاريخيّاً، مَسرحه العالَم العربي الكبير من جهة، وبلدان الاغتراب من جهة ثانية، عاقداً العزم على ربْط شعراء وأدباء المهجر – وخصوصاً في الأميركيّتَين – بنظرائهم في الوطن الأمّ.

وعلى الرّغم من كلّ الصعاب الماديّة التي اعترضت طريقه، استمرّت مجلّته بالصدور ما ينوف عن سبعة وسبعين عاماً. وبذا تكون “الضادّ”، المجلّة الأدبيّة العربيّة الأطول عمراً في تاريخ المطبوعات الثقافيّة العربيّة. ومن العوامل التي أسهمت في استمراريّة هذه المجلّة طوال عقود طويلة، وجعْلها محطّ أنظار القرّاء واهتمام النقّاد والمُختصّين، مشاركة أسماء شعريّة وأدبيّة كبيرة فيها، ينتمي معظمهم إلى الجيل الشعري والأدبي الأسبق.. ومنهم على سبيل المثال لا الحصر: بدوي الجبل، عمر أبو ريشة، عبد السلام العجيلي، خليل هنداوي، سامي الكيّالي، عبد الوهّاب الصابوني، عيسى فتّوح، عبد الرحيم حصني.. من سورية.

ومن لبنان، شارك فيها كلٌّ من: الأخطل الصغير، إسكندر المعلوف، كرم ملحم كرم، سليم البستاني، ألبير أديب وشبلي الملّاط. ومن فلسطين والأردن شاركَ أيضاً: نقولا زيادة، أكرم زعيتر، محمّد العدناني، عارف باشا العارف، والبدوي الملثَّم. ومن مصر: خليل مطران، أحمد حسن الزيّات، عادل غضبان، محمّد عبد الغني حسن ووديع فلسطين. ومن العراق: حارث طه الراوي، حافظ جميل، جعفر الخليلي، ناجي جواد، هلال ناجي ووحيد بهاء الدّين. ومن الكويت أحمد السقّاف، فاضل خلف، عبد الله زكريا الأنصاري وخليفة الوقيان وغيرهم… وغيرهم.

كما راسلَ المجلّة ورَفَدها بالنصوص الشعريّة والأدبيّة والنقديّة من بلدان الاغتراب كلٌّ من الشعراء والأدباء: رشيد سليم الخوري (الشاعر القروي)، إلياس فرحات، شكر الله الجر، شفيق المعلوف، رياض المعلوف، نظير زيتون، أمين مشرق ونعمة قازان وغيرهم.. وغيرهم. ومعظم هؤلاء من شعراء وأدباء المهجر الأميركي الجنوبي، انضووا في تجمّع رابطة “العصبة الأندلسيّة”،والتي ترمز تسميتها إلى المرحلة العربيّة الذهبيّة في الأندلس والاعتزاز بالتراث الشعري والأدبي والعِلمي والعمراني والحضاري العامّ فيها.

وراسلَ المجلّة أيضاً شعراء وأدباء من “الرابطة القلميّة” في المهجر الأميركي الشمالي، من بينهم: أمين الريحاني، نسيب عريضة، رشيد أيّوب، عبد المسيح حدّاد وشقيقه ندرة حدّاد.. وأسماء أخرى من خارج فلك الرابطة المذكورة، حتّى صار النقّاد والشعراء والدّارسون العرب للشعر المهجري يميّزون في ما بعد، بين اتّجاهَي شعراء المَهجر الأميركي، وذلك من منطلق الاختلاف الثقافي والفكري والفلسفي بين البيئتَين الحضاريّتَين في القارّة الواحدة. وفي هذا الإطار، استند بعض الدارسين إلى النصوص الشعريّة والأدبيّة والنقديّة “المهجريّة” التي تفرّدت بنشْرها مجلّة “الضادّ” وأعلنوا في ما بعد حُكم النقد والتقييم فيها. يقول الشاعر فؤاد الخشن لكاتب هذه السطور في العام 1996 ” إنّ مجلّة “الضادّ” لعبد الله حلّاق قدَّمت خدمة جلّى لدارسي الأدب المهجري بفرعَيه الشمالي والجنوبي. فشعراء الشمال الأميركي كانوا الأكثر تجديداً، وجنحوا بشعرهم نحو التأمّل الفلسفي والوجودي والرومانسيّة المتمرّدة والخلق والتجديد، بينما ظلّ شعراء الجنوب الأميركي، على تجديدهم النسبي، أكثر اقتراباً من التقليد ومُعاودة الأساليب التراثيّة. لكنّ ما يميّز شعر الجنوبيّين عن الشماليّين، وكانوا سبّاقين فيه، هو كتابة الشعر المَلحمي، وخصوصاً لدى الشاعر الكبير فوزي المعلوف وتجربته الفذّة في تسطير ملحمته الشهيرة “بساط الريح”، التي اعتُبرت فتحاً شعريّاً عربيّاً جديداً وقتها”.

وأردف فؤاد الخشن يقول لي ” إنّ الشاعر عبد الله حلّاق قد حادثه مباشرة، وأكثر من مرّة، في شأن هذه المسألة النقديّة والنوعيّة المُقارنة بين مجموعتَي شعراء المهجر، في شمال القارّة الأميركيّة وجنوبها”.

وهذا الرأي التصنيفي، في المناسبة، كانت قد توصّلت إليه أيضاً، وبعد سنوات طويلة من نشره في مجلّة “الضادّ”، الشاعرة والناقدة الفلسطينيّة المعروفة سلمى الخضراء الجيوسي في كِتابها “الاتّجاهات والحركات في الشعر العربي الحديث” (مركز دراسات الوحدة العربيّة، بيروت،2019)، حيث قالت إنّ شعراء “الرابطة القلمية”، هُم الذين قاموا بثورة على الشكل واللّغة في الشعر؛ وهُم الذين أدخلوا الموضوعات التجريديّة والمواقف الفلسفيّة إلى الشعر العربي، وعلى أيديهم أَفلحت الرومانسيّة في الدخول إلى الشعريّة العربيّة.

بينما بقي شعراء “العصبة الأندلسيّة”، في رأيها، أقل فعاليّة وجرأة تجاه التجديد، على الرّغم من أنّهم، قياساً إلى الشعر المُعاصر لهم الذي كان يُكتَب في البلدان العربيّة، كانوا كثيراً ما يبدون نظرةً أوسع، ومنظوراً أعمق، ورؤيةً أوضح للإنسان والحياة. وفي مجال الشكل، بقي النظام القديم ذو الشطرَين والقافية الموحَّدة، هو النظام السائد في الجنوب إجمالاً. أمّا في الموضوع، فقد كان شعراء الجنوب يطرقون عادةً موضوعات تشبه موضوعات الشعراء المُعاصرين لهم في البلدان العربيّة، فكان قسمٌ منه مكرَّساً للموضوعات الوطنيّة التي تحتفظ بنبرة بلاغيّة مفعمة بتأكيد الذّات.

أخيراً، يُمكن القول بيقين إنّ عبد الله يوركي حلّاق شاعرٌ عروبيٌّ بعقلٍ تنويريّ يبتعد عن أحاديّات السياسة وأنانيّاتها ويقترب من القناعة التي تقول بضرورة إعادة الفكر العربي، من خلال الشعر، إلى مهامّه في ترشيد الأمور نحو كلّ ما يَجمع العرب ويفيد في تلاحمهم، على الرّغم ممَّا هُم فيه من تشتُّت وتذرُّر وانهيارات غير مسبوقة.

نشرة أفق (تصدر عن مؤسسة الفكر العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى