فتحي إمبابي: التدخل السياسي في الجوائز الأدبية يفسدها

 

يُعد فتحي إمبابي (1949) أحد أبرز الروائيين المصريين، وهو إلى جانب ذلك يعتبر من الباحثين البارزين في قضايا سياسية ذات علاقة بأزمات نظم الحكم في مصر والعالم العربي، والدول النامية عموماً، وجاء كتابه «شرائع البحر الأبيض المتوسط القديم: الطريق إلى الجمهورية البرلمانية»، الصادر حديثاً عن دار «مجاز» في القاهرة، ضمن ذلك السياق. تخرّج إمبابي في كلية الهندسة وعمل مهندساً لدى إحدى الهيئات الحكومية في مصر حتى بلغ سن التقاعد، وحصل على جائزة الدولة التشجيعية في العام 1995 عن روايته «مراعي القتل»، وأصدر كذلك روايات «العرس»، «نهر السماء»، «أقنعة الصحراء»، «العلَم»، «شرف الله»، و«عتبات الجنة»، وله مجموعة قصصية عنوانها «السبعينيون»، بالإضافة إلى كُتب «سهام صبري زهرة الحركة الطلابية»، «الروافد الاجتماعية لجيل السبعينات»، «جنة الدساتير»، والقصة والسيناريو والحوار للمسلسل التلفزيوني «طيور الشمس» (2002).

هنا حوار معه:

> تَرى في كتابك الأخير أن الدستور الروماني في مصر القديمة ما زال له أثر في مصر المعاصرة؟

– ضمّ الدستور الذي وضعه الرومان لمصر تحت عنوان وثيقة «الجنومون» عشرات البنود في مختلف مناحي الحياة اليومية والاقتصادية والتشريعية والدينية تمخضت عنها مجموعة من القواعد والأسس يمكن تلخيصها في الآتي: ضمان عدم ملكية الفلاحين المصريين أراضي زراعية وعقارية، ما كبح إمكانية تطور القوى الاجتماعية للمجتمع المصري. كما منع انخراط أبناء الفلاحين المصريين في جيش الإمبراطورية أو حمل السلاح. أي أنتج هذا الدستور شعباً بلا قوى مادية/اجتماعية/ أو عسكرية، وهو ما يعني الاستلاب المادي. وأفضت سيطرة الدولة الرومانية على المؤسسة الكهنوتية المصرية سيطرة مطلقة، وإدخال الأباطرة الرومان الغزاة المحتلين في منظومة الآلهة المصرية القديمة، إلى استلاب روحي. وبعد آلاف الأعوام من استقرار الجماعة المصرية داخل منظومة يقينية من الأخلاق والدين والحياة الإنسانية بين العالمين الحاضر والأخروي، انتزع الرومان عنهم حق الحياة الحرة الكريمة داخل نطاق الشرائع، وأصبحوا يعاملون في المرتبة الرابعة في قانون التمييز العرقي الروماني، يحيون مثل الحيوانات والبربر والهمج بلا شريعة، وكل من يرتبط بمصري أو مصرية فأبناؤهم أولاد زنا أو سفاح، وبهذا يمكن القول إن الجماعة المصرية تحت الحكم الروماني جرى خروجها من مجرى التاريخي، وإدخالها إلى نطاق العبودية. تتمحور قوانين التطور الإنساني على قضيتي الحرية والعدالة، وقد استمر تابوت الموت المتمثل في الدستور الذي وضعه الرومان لمصر يسجن روح الجماعة المصرية وجسدها عشرات القرون. تطالب بالعدالة لكنها لا تستوعب بصورة قاطعة معنى الحرية الفردية، التي هي جوهر الوجود الإنساني. ولم يساهم في إخراج المصريين من شرنقة الاستلاب هذه سوى عدد من الأحداث التاريخية؛ بدأت في نهاية القرن السابع عشر، أولها كان الحملة الفرنسية التي أحضرت معها رياح التطور، وصعود محمد علي الذي كشف القوة الهائلة الكامنة في الدولة المصرية. ثانيها اكتشاف حجر رشيد الذي أعاد للمصريين الوعي بالذات وبعمق وعظمة حضارتهم المصرية القديمة. والأمر الثالث والحاسم تمثّل في «اللائحة السعيدية» التي أصدرها الوالي محمد سعيد باشا عام 1858 والتي أعادت للفلاحين المصريين حق ملكية الأراضي، وأعطت أبناء عمد ومشايخ القرى الحق في الترقي في الجيش المصري لرتب الضباط.

أي أن استعادة الوعي بالذات لدى الجماعة المصرية لم تتجاوز 160 عاماً، ولهذا لا تزال الشخصية المصرية مثقلة بروح العبودية وسلوك القطيع. وفي المقابل، تعد ثورة 25 يناير 2011 أول ثورة تكشف عن توق الإنسان المصري لمفهوم الحرية والكرامة الإنسانية، إنه الميلاد الأول من تاريخ العبودية.

> تتبعتَ في الكتاب نفسه شرائع منطقة الحضارات النهرية القديمة لحوض البحر المتوسط٬ فهل حدث تلاقح بين هذه الشرائع؟

-أصبح من المستقر يقيناً لدى النخبة من المثقفين والعاملين في مجالات الثقافات والحضارات والأديان في الشرق الأدنى؛ سواء في العالم أو في مصر، أن هناك تماثلاً شديداً في المقاربات والتماثلات والرموز الدينية بين الديانة المصرية القديمة، واليهودية والمسيحية، لكن هذا الكتاب يعتبر المحاولة الأولى للبحث في نطاق إطار أوسع يقوم على دراسة ومقارنة أوجه التفاعل بين ثقافات وحضارات شعوب البحر المتوسط؛ شماله وجنوبه وشرقه، بما يشمل الحضارات اليونانية والرومانية، وبالقطع حدث تلاقح وتلاحم وتفاعل وتطابق وتناقض، فالصليب رمز المسيحية، هو أيضاً رمز العصر الروماني أكبر منتج للعبيد، وقد أجبرت المسيحية روما الوثنية على تبني العقيدة المسيحية، وأطاحت المسيحية قانون الفتح الروماني، وأحلّت محله قانون الإيمان الأرثوذكسي (المستقيم/ الماعت) الذي سنّته الكنيسية المصرية القبطية.

> هل جاء هذا القانون في مصلحة شعوب البحر المتوسط؟

– ليس من شأن التاريخ أن يلعب في مصلحة الجميع، هناك دوماً منتصر وهناك مهزوم، ولكن من الممكن الجزم بأن أكثر الخاسرين في ذاك الشأن كانت الجماعة المصرية، فرغم الدور الذي لعبته في الدعم والمساندة في تبني المثل والقيم الروحية الممثلة في الديانة المسيحية والكنيسة القبطية آنذاك، إلا أن الخسائر المادية والاجتماعية للفلاحين المصريين كانت جسيمة، ومدمرة وقاسية.

> سبق أن قلتَ إن مشوارك مع الرواية كان رحلة في عالم المعرفة، تمحورَت وتموضعت حول طبيعة وسلوك الإنسان بعامة، والإنسان المصري والعربي بخاصة… ما الصورة الذهنية التي خرجت بها من هذه الرحلة؟

– المصريون شعب عريق وعظيم تمكَّن من البقاء عبر أهوال التاريخ، محتفظاً بأصوله الثقافية الحضارية والإنسانية، كما أن لديه مخزوناً حضارياً كامناً في اللاوعي الجمعي، يمكنه من مواجهة وتخطي اللحظات الحرجة في مسار التاريخ. ومن جهة أخرى لعب التاريخ ضد مصلحة الشعب المصري، فظلَّ يئن تحت سيطرة الإمبراطوريات الغازية. من جهة أخرى يبدأ زمن الوعي لدى الشعب المصري بالذات الجمعية للجماعة المصرية مع قدوم الحملة الفرنسية إلى مصر، لقد شقَّت الكفن التاريخي للشعب المصري، وفي الوقت نفسه تعد «اللائحة السعيدية» هي التي نفثت الحياة في عروق الجماعة المصرية. الآن في نهاية العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، يمكن القول إن الجماعة نفسها تواجه صراعات عنيفة على مستوى الهويات المضمرة؛ (المصرية القديمة، القبطية، العربية، الإسلامية، الغربية العلمانية)، وشرط إمكانية الخلاص والتقدم إلى الأمام هو المصالحة الوطنية العامة بين تلك الهويات المضمرة، المصالحة مع الذات، والتقدم نحو دولة المواطنة المدنية العلمانية المعاصرة.

> كيف تقيّم الجوائز مصرياً وعربياً، وهل هي معيار صادق للعمل الجيد بخاصة في ظل الفضيحة التي تفجَّرت في جائزة نوبل؟

– أعتقد أن الغالبية العظمى من الجوائز أنشئت خصيصاً من أجل حماية عقل القارئ. وحين يتم منحها لنصوص غير جيدة على المستويين الفني والإنساني، فإنها بذلك تكرس للرداءة. وهذه المشكلة ناجمة عن تدخل السياسي والأمني في الثقافي، وسيطرة أنصاف الموهوبين والشلل وأصحاب الأجندات النقدية المهترئة على لجان التحكيم. وهو أمر شديد الخطورة لأنه يهدر الطاقات الإبداعية.

> هل تغيّر ذوق قارئ اليوم عن قارئ الأمس؟

– طبعاً تغيَّر. صار أقل عمقاً وأكثر تهافتاً، وهو غير مُلامٍ في ذلك. إنه ابن ما يقدم له. أَغرق المكتبات بالكتب الدينية المتشددة، فأخرجت أجيالاً من الإرهابيين. أغرقها بالثقافة الرفيعة ستجد الكتاب منتشراً في يد ركاب المترو، وقاعات الأوبرا ممتلئة عن آخرها. أغلق قاعات السينما ستجد قارئاً غارقاً في ألعاب الفيديو وأفلام الإنترنت الإباحية. نحن في عصر السيطرة على العقول ولكنني مؤمن بأن الأمور ستنتظم عندما يأتي الدور على إتاحة الأدب الرفيع للقارئ. لحظتَها لن يخذلنا أبداً.

> كيف ترى الحركة الثقافية في مصر والعالم العربي؟

– الحركة الثقافية تراجعت كثيراً؛ مثلها مثل الحياة الاجتماعية والسياسية العربية، تتهاوى في خضم الحروب الأهلية وانتشار التطرف، وضياع القُدس. الحركة الثقافية خربة، هرمة، وضعُها الحالي هو نتيجة لمقدمات أسّستها النخبة منذ الثمانينات حين فتحت الأبواب على مصراعيها للإسلام السياسي، ثم اضطرت تحت عنفه الذي وجهه لها أن تفتح الأبواب في مطلع التسعينات للنخب المُزوَرة للعقل، فقدمت العبودية على أنها تنوير، والجمهوريات الوراثية على أنها الديموقراطية. لا يبدو أنها ستتعافى قريباً.

> هل عانيتَ من الشللية في الوسط الثقافي؟

– نعم؛ في الوسط الثقافي تتكون جماعات مصالح، وشلل من أنصاف المبدعين، وهم عادة يشعرون بالسعادة والتحقق عندما يتمكنون من كبح جماح الأدب العظيم والتعتيم عليه، وعلى كُتابه وعرقلة تقدمهم، مستفيدين من شروط الواقع الثقافي المخل والذي يعادي الموهبة والإبداع، مستنداً إلى قطاع واسع مستعد لتقديم خدماته للسلطة الثقافية والسياسية مقابل الحصول على التميز والنفوذ واقتسام الجوائز ومنصّات الصحافة. إنها حالة من التزوير والضلال.

> ما جديدك في الكتابة الأدبية؟

– انتهيت من مجموعة قصصية عنوانها «الرجال الطبيعيون»، وأوشك على الانتهاء من مجموعة قصصية أخرى. وأعكف حالياً على كتابة رواية قصيرة، أتمنى الانتهاء منها قريباً، لأبدأ في إعادة كتابة الجزء الثاني من رواية «عتبات الجنة» وعنوانه «منازل الروح».

> هل ترك الواقع المعيش هامشاً لخيال المبدع؟

– الإجابة ستكون بلا، ونعم. لا؛ لأن التطور الذي يعيشه العالم اليوم يتسارع بصورة يصعب اللحاق بها أو تخيلها، ومعدلات القفز بالتكنولوجيا تفوق القدرة على المتابعة، ولا؛ لأن واقع الحروب والاقتتال الذي نعيشه في مصر وفي المنطقة العربية، وحجم المؤامرات التي تحاك للمنطقة واختلاط الحابل بالنابل، وتبادل الوجوه والأقنعة، والانتصارات التي يحققها العدو الإسرائيلي والتي أصبحنا نكتفي بمشاهدتها، هي أمور تتجاوز كل خيال.

وهكذا أستطيع القول إن الواقع المعيش ترك هامشاً لخيال المبدع، فقد أصبح الشغف الذي يتمكن من المبدعين الكبار -عقلاً وليس سناً- وأصحاب المخيلة؛ للبحث والحرث في الجذور لمعرفة مكامن الخطأ، والتعرف على الذات الجمعية التي تتميز بالعجز وانعدام القدرة على المقاومة، وأيضاً امتلاك القدرة على استبصار المستقبل، وطرح سيناريوهات الخروج من الواقع. هكذا أدعو زملائي من الكتاب الشباب؛ الكبار موهبةً وإرادةً ومسؤولية، أن يتوقفوا عن تلبية احتياجات السوق الرخيصة، والأجندات النقدية التي تطالبهم بالبعد عن الاجتماعي والسياسي والاكتفاء بالذاتي والشخصي، هذه أجندات خيانة الأمة والوطن والشعب، وأصحاب هذه الأجندات يحتلون مفاصل مهمة في المسرح الثقافي.

> في «نهر السماء»٬ و»عتبات الجنة»٬ لماذا عدتَ إلى التاريخ؟ وما هو تعريفك للرواية التاريخية؟

– لو أنني قررتُ الإجابة في صورة مباشرة عن السؤال، يمكنني القول إن الروايتين ترتبطان بزمن أحداث لا يمكن الخروج عنه إلى زمن آخر. «نهر السماء» تتحدث عن لحظة فارقة في تاريخ الجماعة المصرية، وهي نهاية عصر المماليك (حكم العبيد للفلاحين المصريين) والذي استمر ستة قرون، وبداية استشراف عصر الدولة الحديثة، والقيم التي عنيت بها الرواية تقع في تلك الفترة عينها. رواية «عتبات الجنة» تدور أحداثها في مسرح جغرافي يجب أن يكون في وعي كل مصري وسوداني عربي أو أفريقي، إنه نهر النيل؛ منبع الحياة لدى شعوب حوضه. زمن الرواية مرتبط ببدء تكون الجيش المصري الوطني، وهو ليس الجيش نفسه الذي يدرس في المدارس، وأعني جيش المماليك أو جيش محمد علي باشا. الجيش في رواية «عتبات الجنة» هو أول جيش مصري في العصر الحديث مكون من أبناء الفلاحين؛ أسسه الوالي محمد سعيد باشا، بالإضافة إلى أبناء السودان العربي والأفريقي.

والعملان لا ينتميان إلى ما يسمى بالرواية التاريخية. كل رواية هي تاريخية بصورة ما. لكنني مشغول روائياً بالبحث في الهوية المصرية. عندما يتسلح الكاتب بالمعرفة بفروعها التاريخية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وعندما يكون متمكناً من علم النفس والأنثروبولوجي وعمليات التحليل والتفكيك والتركيب، يصبح صاحب بصيرة قادرة على المغامرة التخييلية المتعلقة بالنفاذ من قلب الأحداث الظاهرة إلى المستويات الباطنية للشخصيات والأحداث التاريخية واستبصار سلوك الجماعات الاجتماعية.

صحيفة الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى