في ذكرى بليغ حمدي

لم تشغل الناس وأهل الموسيقى والفن والنقاد تجربة موسيقية كما فعلت ولا تزال، تجربة الراحل بليغ حمدي بما شكلته من افتراق عن ملحني جيله بل ومن عاصرهم من ملحني الأجيال التي سبقته. بليغ حمدي عصف موسيقي اجتاح دنيا الغناء العربي في مستويين، فرادة الجملة اللحنية والكم الهائل الذي قدمه على مدار سنوات تجربته يلحظ الدارس تجربة بليغ حمدي بيسر أن أبرز سمات تجربته هي الحداثة: لا يتعلق الأمر هنا بإدخال آلات موسيقية غربية أو حتى تقديم «مغامرات» جديدة في التوزيع، وهو فعل ذلك كله، لكنه يتعلق أساساً بالجملة اللحنية ذاتها، والتي انبثقت من وعي اللحظة الفنية في نهوضها نحو نغم مختلف يقارب العصر ويستلهم روحه.

هي ألحان وصفها محمد عبدالوهاب بالسهل الممتنع، وزاد قائلاً أنها تأتي للملحنين الكبار أحياناً، لكنها تأتي لبليغ غالباً. لا أتوقف طويلاً أمام تجاربه الأولى في التلحين، والتي كانت مع المطربة فايدة كامل ولكن أمام محطتين شكلتا دخولاً جميلاً ومميزاً الأولى «ما تحبنيش بالشكل ده» للمطربة فايزة أحمد والثانية لحنه المهم واللافت «تخونوه» لعبدالحليم حافظ، وهي جاءت في مرحلة كان عبدالحليم يغني للكبيرين محمد الموجي وكمال الطويل غالباً مع بعض ألحان محمد عبدالوهاب ومنير مراد. كان محمد الموجي ملحن الكلمة النابضة بمعاني الحب كما تعيشه الأجيال الجديدة فيما استحق كمال الطويل صفة ملك الأغنية الرومانسية من دون منازع.

بليغ فضاء موسيقي آخر: مروحة واسعة من أصوات المطربين والمطربات من مصر ومن مختلف البلدان العربية غنت ألحانه وهي حالة لم تتكرر بتلك الشمولية مع ملحن آخر، فهو لحن لأم كلثوم، وردة، عبدالحليم حافظ، نجاة الصغيرة، فايزة أحمد، محرم فؤاد، شادية، نازك، عفاف راضي، محمد عبد المطلب، علي الحجار، فهد بلان، محمد العزبي، محمد رشدي، وليد توفيق، صباح، سيد النقشبندي، سميرة سعيد، عزيزة جلال، طلال مداح وغيرهم. ليست كثرة الأسماء والأصوات ما نشير إليه، ولكن القدرة على فهم تلك الأصوات وما تحتاج إليه وكيفية استخراج جمالياتها وقدراتها الفنية. هنا، نلحظ اهتمام بليغ حمدي بالحالتين العاطفية والشعبية فهو إلى جانب ما لحنه من أغنيات لأم كلثوم ووردة ونجاة وعبدالحليم حافظ، قدم تجربة شعبية مرموقة مع صديقه الشاعر عبدالرحمن الأبنودي في أغنيات لعبدالحليم حافظ ومحمد رشدي وشادية، كما قدَم فيها ألحاناً جديدة لأغنيات فلكلورية شهيرة كما فعل في «أنا كل ما اقول التوبة» و «على حسب وداد قلبي» لعبدالحليم و «قولو لعين الشمس» لشادية وهي تجربة وصفها الراحل كمال الطويل بأنها أحيت تلك الأغنيات الفلكلورية لمئة سنة في الأقل.

مع ذلك، تظل ألحانه الأبرز والأهم والأكثر شهرة تلك التي غنتها أم كلثوم، ثم ما غنتها وردة وعبدالحليم حافظ: جاء بليغ حمدي إلى صوت أم كلثوم في ذروة تعاونها مع ملحنها «التاريخي» رياض السنباطي، وأعتقد أن أم كلثوم سعت إلى بليغ باعتباره يمثل الحداثة في الموسيقى والغناء العربيين، وهي التي ظلت طيلة تجربتها الغنائية تحرص على مواكبة التطور وروح العصر فغنت له بدءاً من عام 1960 وحتى عام 1973 عشر أغنيات، إضافة إلى أغنية وطنية كانت «حب ايه»، «أنساك»، «أنا وانت ظلمنا الحب»، «بعيد عنك»، «كل ليلة وكل يوم»، «سيرة الحب»،

بليغ حمدي تراث موسيقي ولحني كبير وغني للمسرح والسينما وقد كانت له مساهتمه البديعة فيهما، وهو قبل هذا وبعده مبدع موسيقى الروح الذي استلهم الحياة ألحاناً سكب فيها العذوبة والسلاسة فسرت وظلت حية في نفوس أجيال كثيرة لا تزال تغنيها وتعيشها.

صحيفة الحياة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى