في وداع حكاء عجوز ماهر

 

سعيد الكفراوي هو الكاتب المصري الوحيد المسكون بأداء الحكائين الكبار.. بدءا من اختيار الكلمات والجمل ذات الوقع البلاغي الكبير على أذن المستمع.. مرورا بتوظيفه الماهر للغة الجسد سواء باليدين أو ملامح الوجه او طريقة الوقوف أو تصدر الجلسة.. وصولا إلى نبرة الصوت الحانية القادمة من أعماق محتشدة بالحنين والمحبة.

كان يعرف كيف يقطع الكلمات والجمل.. وكيف يختار أقواها ليبدأ بها.. ومتى يزيد من وتيرة الكلام ومتى يبطئه.. تاركا لخياله البراح كي ينسج قصصه الساحرة.. تلك التي كنا ندرك أن أغلبها حدث بوقع أقل حضورا من ذلك.. لكن طريقته في الحكي وخياله الجامح منحاها حضورا أقوى من حضورها الفعلي..  وجعلانا مندهشين أمامها على الدوام .. حتى لو سمعناها ألف مرة ومرة.. مغالبين بأنفسنا الرغبة في مراجعته بأي من التفاصيل.

كانت نبرة صوته مميزة للغاية .. حتى أنني طالما تصورت أنه أخطأ الطريق إلى الإذاعة.. وأنه كان بإمكانه أن يقدم جملة من البرامج التي ترتبط باسمه وصوته.

هو واحد من الكتاب الذين لم يسعوا للتمرد على ريفيتهم.. بل على النقيض سعى لأن يجعل من ريفه نموذجا قابلا للعالمية .. باحثا عن الحكايات المدهشة فيه لتقديمها بصيغة يمكن تداولها في مختلف الثقافات.. حيث تكون الدهشة والغرابة والفتنة أكبر عناصرها.. وحيث يتحول الفلاح البسيط في كفر حجازي إلى فلاح آخر في الريف الألماني أو البرازيلي.. وتصبح السيدة الفقيرة وبقرتها الوحيدة سيدة من الريف الروسي أو الشيشاني.

دائما ما كنا نجد أنفسنا أمام كاتب مفتون بدهشة عوالمه الخاصة .. عوالمه التي عشناها جميعا مثله في قرانا وبيوتنا وأهلينا.. لكننا لم نرها بعينيه.. ولم نمنح بلاغة الجمل التي منحت إليه، ولم نعرف كيف نستحضر شخوصنا بكل هذا الحنين والشجن الذي كان يتلبسه حين يحكي عن شخوصه.

كان الكفراوي أكثر من رثى أصدقاءه محبة وفتنة ودهشة.. كان يعرف أجمل ما فيهم ويستخرجه منهم، يصوغه في بلاغة تليق بمقام الحزن وجلاله، كما لو أنه نهر متدفق طيلة العمر بالموت والفقد والألم بالبكاء.

أصدقاؤه في كل بقاع العالم العربي، يأتونه باحثين عن حضوره الشجي في نفوسهم.. فيتوسطهم ويحكي .. يعرف كأي حكاء عجوز ماهر كيف يجذب الأذان اليه، يعرف كيف يصوغ الجمل الأولى في محبة من يسمعه.. ثم يأخذ بيده إلى عوالمه الخاصة .. عوالمه الفسيحة البديعة المدهشة .. فينسى السامع قضيته.. ولما جاء وكيف أتى .. ويطوف معه من حكاية إلى أخرى.. متدثرا بصوته الرخيم الدافئ.. ومندهشا بكم الخيالات الفاتنة لديه، منتظرا النهاية، تلك التي يتفنن في صياغتها دائما.. فيغير مشهدا أو كلمة أو جملة أو طرقة على كتف أو فخذ سامعه.

توقن من فرط الدفء الذي ينبعث من صوته، ومن طرقاته الحانية على الكتف أنه واحد من آبائك المحبين .. تشعر أيضا بقدر  من الأمومة لديه، حتى أنه قد يشملك برعايته إن رآك مرتبكا أو متهيبأ للناس والمكان.. فيأخذ بيدك ويرشدك إلى أفضل الطرق وأقصرها.. وقد يمد يده ويحضر لك أفضل المتاح على المائدة .. مؤكدا أن كل ذلك صنع من أجلك أنت ككاتب أو ناقد .. وأنك لست أكثر غنى من الذين صنعوا كل هذا الفرح بأموالهم.

فوداعا له..

ووداعا لنا.. لأننا الذين رحلنا عنه .. بينما هو سيظل مقيما بصوته وصورته وأعماله إلى أجيال كثيرة ستأتي بعدنا.

ميدل إيست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى