قرنٌ من النزوح والتهجير: مآسٍ بلا نهاية… برعاية دولية!

 

أزمة اللجوء السوري مثّلت مناسبة لجرد تاريخ النزوح البشري على المستويات الإقليمية والمحليّة والدولية. انطلاقاً من هذا الواقع، جاء المؤتمر الدولي الذي عقده مركز الفنون والآداب في الجامعة الأميركية في بيروت بعنوان «مئة عام من التشريد والاستلاب: أوروبا والشرق الأوسط، 1919-2019» واستضاف ثلّة من الأكاديميين من جامعات العالم

قرن مرّ على انتهاء الحرب العالمية الأولى مع ما فرضته من تبدلات غيّرت وجه العالم مع تفكّك إمبراطوريّتين عظيمتين في أوروبا والشرق الأوسط. رسميّاً انتهت الحرب بمعاهدة فرساي التي أعادت ــــ مع ما تلاها من معاهدات ومواثيق ــــ رسم الحدود بين الدول، وأذِنت للدول الوليدة بأن تقوم بتهجير وإبعاد سكّانها الذين كانوا إلى وقت قريب جزءاً من نسيج مجتمعاتها، ومن ثم أصبحوا في عداد الأقلّيات التي اتخذت ألواناً مختلفة قومية وعرقية ولغوية ودينية… وعلى مدى القرن الماضي، تفاقمت أزمة اللجوء والتشريد، وما المأساة السورية التي ولّدت أزمة لاجئين في أوروبا وفي بلدان شرق أوسطية، سوى امتداد لذلك التاريخ الطويل الذي بدأ أوائل القرن.

ترافقت أزمة اللجوء السوري مع صعود خطاب اليمين في أوروبا المذعور من «الغرباء»، وخلقت مشاكل في البلاد الإسلامية والعربية المُضيفة كتركيا ولبنان والأردن ومصر، البلاد التي كانت لها حصة الأسد من هذا النزوح. هذه الأزمة مثّلت مناسبة لجرد تاريخ النزوح البشريّ على المستويات الإقليمية والمحليّة والدولية، فكان المؤتمر الدولي الذي عقده مركز الفنون والآداب في الجامعة الأميركية في بيروت بعنوان «مئة عام من التشريد والاستلاب: أوروبا والشرق الأوسط، 1919-2019» على مدار ثلاثة أيام في 14 و15 و 16 أيار (مايو) واستضاف ثلّة من الأكاديميين من جامعات حول العالم.

وفق منظّمي المؤتمر، فإنّ فكرته انطلقت من محاولة فهم أزمة النزوح السوري عبر وضعها في إطار تاريخي طويل الأمد، من خلال دراسة التهجير في أوروبا والشرق الأوسط على مدى قرن كامل بعد الحرب العالمية الأولى، بهدف المقارنة ومحاولة تطوير مقاربة شاملة للنزوح والتهجير الإنسانيّين، وإن بدت النتيجة واضحة لناحية فشل أنظمة اللجوء العالميّة في إدارة هذه الأزمة الإنسانيّة، كما فشلت من قبل في إبرام معاهدات أدّت إلى تهجير ملايين البشر.

 ينقل مارك ميزوفر في كتابه عن هتلر مقولة عن لسان أحد المسؤولين عن تهجير السكان في ألمانيا إبان الحرب العالمية الثانية «لو أن المجتمع الدولي لم يترك كلّ تلك الأقليات في تلك الأماكن، ويحولها إلى أقليات، لم يكن ليحدث كل هذا». وقد حاججت بعض الأوراق كيف أن الخطاب الدوليّ العامّ ينظر إلى اللاجئين من خلال عدسة أمنية، ويسعى لتطبيع اللجوء بدون اعتبار أسباب اللجوء، من قبيل فشل الدول والإدارات الفاسدة. من جهة أخرى غدت الدول المستضيفة متوترة بصورة متزايدة بسبب كلفة النزوح على مجتمعاتها واقتصادها التي تصبح أكثر وضوحاً باطّراد.

في السياق، يرى المؤرخ عبد الرحيم أبو حسين ـــ أحد منظّمي المؤتمر ــــ أن أزمة النزوح السوري والعربي إلى أوروبا لها علاقة بفشل الدول العربية اقتصادياً، وهو ما جعل مسألة الهجرة سابقة على مسائل «الربيع العربي»، حيث كان كثيرون يحاولون الهجرة سواء بطرق شرعية وغير شرعية إلى أوروبا وغيرها. جاءت الحرب لتفاقم المسألة الاقتصادية، وأضافت أسباباً أخرى دفعت الناس إلى الهجرة والنزوح الجماعيّين، ونجم عن ذلك «الاضطراب الدولي» بين التعامل مع هذه الأزمة وفق معايير إنسانية «مضطرون لمراعاتها ولو في الظاهر، والإفادة من توفّر اليد العاملة» والخوف من تغيّر ديموغرافي نتيجة الأعداد الهائلة من النازحين.

 ولم يكن «الميثاق العالمي للهجرة الآمنة المنظمة والقانونية» المُعتمد حديثاً من قبل الجمعيّة العامّة للأمم المتحدة في 19 كانون الأول (ديسمبر) 2018 الذي نال موافقة 152 بلداً، واعترض عليه كلّ من الولايات المتحدة وهنغاريا و«إسرائيل» والجمهورية التشيكية وبولندا، فيما امتنع اثنا عشر بلداً عن التصويت، إلا محاولة لتأطير هذا الاضطراب ومواجهة الآثار الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لهذا النزوح.

تصحّ تسمية القرن الحادي والعشرين بـ «قرن النزوح»، بحسب اصطلاح الباحث من «جامعة إكسيتر» بيلي برونل. النزوح والتهجير لا ينتهيان، وإن مرّا بفترات من السكون والخمود، ليتغيّر الحال لدى أيّ مثير سياسي. والدول التي تعاني من مشاكل حدود لم تُحلّ بعد، أكثر من أن تحصى، فيما هناك في الوسط أناس عالقون. فكرة الدولة القوميّة الناشئة وخلْق الحدود أدّيا إلى هذا الفائض من اللاجئين. حسب الفيلسوفة والمنظرة الراحلة حنا أرندت، التي كانت حاضرة في نقاشات المؤتمر، تقوم الدولة القوميّة على فكرة اللجوء: باعتبار أنّ هناك مواطنين، وآخرين «ليس لهم الحق بامتلاك الحق»، وبالتالي خلق كارثة الشتات واللجوء.

وعلى مستوى الشرق الأوسط، مشاكل الحدود لا تزال قائمة، مثلاً بين الجزائر والمغرب، بين تركيا وسوريا، بين مصر والسودان. واليوم بين السعودية واليمن، حيث لكل دولة عربية حدودها وكيانها الخاص الذي تدافع عنه، وتتعصب له كأي دولة قومية، فيما القومية العربية لم تتجسّد يوماً سوى في أفكار معتنقيها. «ولا حلّ إلا عندما تصبح المواطنة فكرة راسخة في أي دولة، فتكفّ الأقلية عن أن تكون أقلية، ويخمد الشعور الأكثري والأقلوي، ويصبح الفرد مواطناً وليس عضواً في جماعة لغوية أو إثنية إلخ» وفق عبد الرحيم أبو حسين.

على مستوى آخر، فليس هناك مثال أوضح على ذلك من احتلال فلسطين عام 1948 وتشريد أهلها، والذي خلقته الدول الكبرى مع وعد بلفور 1917. وفق أبو حسين «ما حصل في فلسطين أبعد بلا شك من مسألة تهجير، لكن اللجوء والتهجير هما من أبرز أوجهها، حيث مئات الآلاف من الفلسطينيين في لبنان وسوريا والأردن ومصر، وهو ما خلق مشاكل للفلسطيني نفسه وللدول المضيفة، وصار الفلسطيني مشكلة حيث هو، حتى في فلسطين المحتلة نفسها ثمة «لجوء تحت الاحتلال» في الضفة الغربية وقطاع غزة حيث نصف السكان هم لاجئون من المناطق التي احتُلّت عام 48».

 

 

صحيفة الاخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى