مفهوم الحداثة ونقدها عند عبد الوهّاب المسيري

يُعتبر عبد الوهّاب المسيري أحد أبرز المفكّرين العرب في القرن العشرين، وقد تميّز بإنتاجه الفكريّ الخصب، وشَغَلَه هَمّ النهضة العربيّة والإسلاميّة، فحاول تقديم مشروع فكريّ على غرار المفكّرين العرب والمسلمين الذين كان لهم موقف نقديّ من الحضارة الغربيّة وتحيّزاتها، ولاسيّما إشكالية التحيّز للحداثة الغربيّة، محاولاً بهذا النقد البنّاء أن يُعيد صوغ معاني الحداثة تنظيراً و تطبيقاً، بما يتواءم مع الحضارة الإسلامية. فكيف تعامل المسيري مع ظاهرة التحيّز للحداثة الغربية هذه انطلاقاً من نظرته التكامليّة إلى التراث والدّين؟

يتمثّل نقد المسيري للحداثة الغربية في سؤالٍ مركزيّ: ما هي أهمّ تحيّزات الحداثة الغربية؟ وهل تصلح هذه الحداثة لأن تكون مشروعاً للنهضة العربية والإسلامية؟ وما هي البدائل لتجاوُز هذه النقائص والتي يُمكن أن تُتَّخذ كأساسٍ لبناء مفهومٍ إسلاميّ للحداثة يتماشى مع أصالتنا وخصوصيّة الأمّة العربية والإسلامية؟

لقد استخدم المسيري مصطلحاً جديداً في نقد الحضارة الغربية في أبعادها المعرفية، هو مصطلح “فقه التحيّز”، وأراد به أن يكون أداة ووسيلة لتحديد التحيّزات الغربية الكامنة في المناهج والأدوات التي يستخدمها الباحثون العرب في دراساتهم، والذي يشكّل برأيه أكثر التحيّزات شيوعاً وخطورة. فكثيرون يرون أنّ القيَم الغربية هي قيَم عالميّة، ويتبنّونها من دون إدراك خصوصيّتها الغربية، سواء أكان هذا التبنّي بوعيٍ أم من دون وعي. وقد استخدم المسيري كلمة “فقه” بدلاً من عِلم، لأنّ الكلمة الأولى تسترجع، بحسب رأيه، البُعد الاجتهادي الاحتمالي والإبداعي للمعرفة، وذلك على عكس كلمة عِلم، التي تؤكّد على جوانب الدقّة والحيادية والنهائية. وكان المنهج التفكيكي من أهمّ المناهج التي استخدمها في كشف التناقضات الداخلية للحداثة الغربية.

التحيّز لغةً واصطلاحاً

تحيَّز في اللّغة، أي انحاز القوم، فتركوا مركزهم ومعركة قتالهم ومالوا إلى موضوع آخر. أمّا التحيّز اصطلاحاً، فهو اتّجاه سلبيّ عدوانيّ نمطيّ ثابت تجاه جماعة، بحيث يرتكز هذا التعصّب على معتقدات خاطئة.

لقد تناول المسيري فقه التحيّز على اعتباره حالة إنسانية تُظهر كيف أنّ العقل الإنساني يتفاعل مع الواقع ويتأثّر ويُبدع ويولِّد أفكاراً، وبالتالي يتبنّى مواقف معيّنة نتيجة هذا التفاعل. كما أكَّد أنّ فقه التحيّز لا يهدف إلى التقليل من القيمة الإنسانية لإبداعات الإنسان الغربي ولا إلى تحميله مسؤولية كلّ ما حدث لنا من مصائب، ولكنّه يهدف إلى رؤية النموذج المعرفي الغربي، باعتباره إحدى التشكيلات الحضارية الإنسانية، لكن من دون أن يكون التشكيلة الوحيدة. بالتالي سيكون بإمكاننا التعامل مع هذا النموذج من دون قلق، فلا نقبله كلّه ولا نرفضه كلّه، بل ندرسه كتشكيلٍ حضاري إنساني له سلبيّات وإيجابيّات. ولقد وضع المسيري أُسساً عدّة وقواعد نستطيع من خلالها تجاوز التحيّز، ومن أهمّ هذه الأُسس: إدراك حتميّة التحيّز وضرورة النقد الكلّي. ويرى أنّ نقد التحيّز يجب ألّا يقف عند الجانب التطبيقي فقط، بل يجب أن ينصرف إلى مجمل البناء النظري الذي يفرز التحيّز. ومن هذه الأُسس أيضاً، توضيح نقائص النموذج المعرفي الغربي، لأن توضيح نقائص هذا النموذج سيساعدنا، بحسب رأيه، على التحرّر من قبضته المُهيمِنة. فهو نموذج معرفيّ مُعادٍ للإنسان، يتعامل معه باعتباره شيئاً مادّياً. ويلفت المسيري أنظارنا وانتباهنا إلى حقيقة مهمّة، وهي أنّ نقد الحضارة الغربية لا يهدف إلى الفضح والانتقاص، ولكنّه يهدف إلى الفهم والاستيعاب وعزل ما هو خاصّ وغربي عمّا يصلح لأن يكون عاماً وعالميّاً. ولقد أراد المسيري من خلال تقصّيه لظاهرة التحيّز للنموذج المعرفي والحضاري الغربي على الخصوص، أن يوضح ويبيِّن سلبيّات بعض التحيّزات التي تكون لحضارة على حساب حضارة أخرى؛ ذلك أنّ تحليل المسيري للحضارة الغربية في صورتها المادّية يكشف أنّ هذا التحيّز للنموذج المعرفي الغربي ينطوي على نَوع من العنصرية والسيطرة ضدّ العالَم. كما يرى المسيري أيضاً أنّ من أهمّ المنظومات، التي ينحاز إليها العالَم المتخلّف الذي يقع أسير منظومة الغرب المعرفية والحضارية، هي منظومة الحداثة الغربية. لذا شنّ عليها هجوماً كبيراً ، منتقداً مصطلحات هذه الحداثة.

مفهوم الحداثة عند المسيري

يرى المسيري أنّ مصطلح الحداثة هو من أهمّ الظواهر التي أنتجتها الحضارة الغربية والتي تعكس تحيّزاتها، وتبدأ مرحلة الحداثة عنده من نهاية الحرب العالمية الأولى حتّى منتصف الستينيّات من القرن العشرين. ويعرّفها المسيري على أنّها تبنّي العِلم والتكنولوجيا والعقل كآليات وحيدة للتعامل مع الواقع. وهو يشير إلى أنّ أهمّ خصائص الحداثة الغربية تتلخّص في أنّ المادة هي أساس الفكر ومصدر المعنى والقيمة، وفي أنّ التكنولوجيا العلمية، هي التي تمثّل معيار القيمة وتعمل على السيطرة على الطبيعة. ومن خلال هذه الحداثة الغربية يتمّ النظر إلى الغرب على أنّه مركز الكون ولا معنى للإنسانية من دونه. من هنا يرى المسيري أنّ الحداثة الغربية تمثّل منظومة إمبريالية داروينيّة تحكمها العقلانية المادّية في إطار منظومة ثُنائيّة الإنسان والطبيعة، حيث يكون الإنسان المتألّه، أي الذي يجعل نفسه مركز الكون والطبيعة. لذا نقد المسيري الحداثة الغربية نقداً لاذعاً، ووقف ضدّ مقولاتها موقف المُهاجِم لها، حيث أشار إلى أنّ أهمّ مقولات هذه الحداثة الغربية يتمثّل في: العقلانية. فتُعتبر العقلانية المظهر الأساسي الأوّل للحقيقة، وهذا ما جعل فكرة الحداثة مُقترنة بها اقتراناً وثيقاً. وينتقد المسيري هذه المقولة، معتبراً أنّ العقل في منظومة الحداثة الغربية هو جزء من الطبيعة أو المادّي، ويرى أنّه سلبيّ محايد، بما يؤكّد ارتباط الحداثة الغربية بالعقلانية، تلك العقلانية الحداثية التي تتّسم بالطابع المادّي والحسّي. ويشير المسيري إلى أنّ من أبرز مظاهر التحيّز للحداثة الغربية مظاهر التحيّز للتقدّم المادّي. فالتقدّم سمة حضارية تخصّ الإنسان وحاجاته. ويصف المسيري هذا التقدّم المادّي بالتحيّز الأكبر، وذلك بعدما أصبح مفهوم التقدّم هدف الناس كلّهم، ومن هنا تأكيده على أنّ القوام الأساسيّ للحضارة الغربية هو تقدّمها المادّي وسيطرتها على العالَم بوسائل الحداثة، أي بوسائل التكنولوجيا الحديثة والتقنية المادية. ويضيف المسيري في هذا الصدد أنّ التقدّم، أصبح قانوناً عاماً طبيعيّاً، وأنّ الغرب بات يُعتبر قمّة التقدّم، الذي يؤدّي إلى مسلّمة تفوّق الغرب و عالميّته، فضلاً عن معياريّة النموذج المعرفي الغربي الذي غدا نموذجاً قياسيّاً للبشرية جمعاء. وعليه، فإنّ عمليّة التقدّم ليس لها غاية إنسانية محدَّدة أو مضمون أخلاقي محدَّد. فالتقدّم مثل الطبيعة مجرّد حركة عملية؛ ما يعني أنّ منطق التقدّم الغربي، أي الحداثة الغربية، تنهار معه قيمة الإنسان أمام المادّي وتحلّ قيمة السلعة مكانه، لأنّه، أي المادّي، أيقونة الإنسان الحداثي بقدر ما هو أيقونة التقدّم على حدّ تعبير المسيري. وبذلك يصبح التنافس والتسابق من أجل التسلّح والمال هَمّ الإنسان الحداثي الذي تتملّكه الأنانية وحبّ الذات.

بعدما وضَّح المسيري نقده للنموذج المعرفي والحضاري الغربي وأهمّ تحيّزاته المتمثّلة في الحداثة الغربية بكلّ ما تحمله من قيَم مادّية ومن ابتعاد عن الجوانب الأخلاقية، يقدِّم لنا نموذجه البديل والمقترَح. ويقوم هذا البديل كردّ على تداعي خصوصيّتنا الحضارية، ومنطلقاتنا النظرية والعقدية، وكذلك نظرتنا إلى الكون والإنسان. فالنموذج المعرفي البديل الذي يجب أن نستخدمه في أبحاثنا ودراستنا يجب أن يكون نابعاً من تراثنا الذي هو مجمل تاريخنا الحضاري. أمّا عن ملامح هذا البديل، فهو توليدي غير تراكمي، ينطلق من الإنسان، ولا يعتمد على النظرة الضيّقة التي تفترض أنّ ثمّة نقطة واحدة تتقدّم نحوها الظواهر كلّها والبشر كلّهم، وكأنّ هناك معرفة واحدة وأمّة واحدة. فهذا، من وجه نظره، يتنافى مع العقل والتجربة الإنسانية. أمّا العلم البديل، الذي ينتجه النموذج المعرفي البديل، فهو علم إنساني لا يدّعي الكمال، ولكنّه اجتهاد مستمرّ، يُدرك أنّ عقل الإنسان لا يُمكنه الإحاطة بكلّ شي.

من خلال تقديمه لمشروعه النهضويّ الذي يتمثّل في نقد الحداثة الغربية بتحيّزاتها كلّها، رأى المسيري أنّ هذا المشروع النهضوي الحضاري يتناسب مع قيَمنا وعاداتنا وتراثنا وخصوصيّتنا، لذا يرتكز هذا المشروع البديل عند المسيري على عنصر جوهري هو أسلمة المعرفة، والعودة إلى خصوصيّتنا الحضارية. ومع ذلك لا يمانع في الأخذ من الغرب، لكن بشرط أن يتّفق ما نأخذ به مع خصوصيّتنا، وألّا يُهدِّد هويّتنا الثقافية والحضارية؛ إذ يعكس مشروع المسيري بوجه عامّ، مَعالِم الخطاب الإسلامي الجديد الذي لا يرى أيّ مبرّر للأخذ بالحداثة الغربية أو رفضها، بل ينطلق من قاعدة إسلامية متطوّرة في رؤيتها للحداثة الغربية، ثمّ ينفتح عليها و يُمارس عمليّة النقد ويتفاعل معها. وهذا ما يسمّى بالانفتاح النقديّ التفاعليّ. من هنا جاءت قناعة المسيري بأهمّية التفاعل الحضاري والانفتاح على الآخر، شرط عدم الإخلال بخصوصيّتنا الحضارية والمعرفية.

نشرة أفق (تصدر عن مؤسسة الفكر العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى