’’نحكي لنَحيا‘‘ الرواية العراقيّة ما بعد 2003

كان للتحوّل الدّفعي الذي أعقب سقوط صَنَم الرئيس العراقي في بغداد سنة 2003، تداعيات هائلة انعكست على الحياة العراقية ومظاهرها المتعدّدة، وخصوصاً منها المشهد الأدبي في العراق الذي نال نصيبه البالغ من تلك التحوّلات، وأبرزها العزوف عن الشعر في العقد الأخير لمصلحة الرواية…

عُرف العراق طوال قرون خلت بأنّه موطنٌ صانع للشعرية العربية ومصدِّرٌ لها بدءاً من أيام بني العباس وانتهاءً بعصر الحداثة، بما حمل من إسهامات رياديّة أسّست لأفق الحداثة العربية في ما بعد. غير أنّنا نلحظُ عزوفاً واضحاً في العقد الأخير عن الشعر يسود أوساطه الأدبية، وذلك لمصلحة جنس أدبي صاعد، سلب من الشعر هيمنته السابقة، ليبسط سيادته الجديدة على مجمل الإنتاج الأدبي في السنوات العشر الماضية. هذا الجنس الفتيّ المُهيمن على المشهد بقوّة، هو الرواية العراقية الجديدة.

وإذا ما تجاوزنا قليلاً المرويّات والشفاهيّات التراثية والتاريخية، ندرك أنّ عصر الحداثة في العراق، لم يتمخّض إلّا عن تجارب روائية وقصصية متفرّقة، لم تكن بذات الثقل والثورة الشكلية أو المضمونية التي حملتها أعاصير التغيير الآتي مع، أو من خلال الشعر. كما لم تُورث الرواية أسماء ذات تأثير قد يناهز شاعراً مثل بدر شاكر السّياب كأحد أهمّ روّاد الحداثة الشعرية والمؤسّسين لها. ومع وجود التماعات مهمّة مثل القاصّ غائب طعمة فرمان، لكن وعلى الرغم من أهمّيته، بقي نجماً مُفرداً، ولم يشكّل مدّاً لحركة لاحقة من شأنها أن تُحدث تطوّرات على مستويَي الرؤية والسرد، كما فعل الشعر في عنفوانه الخمسينيّ والستينيّ في العراق.

لقد احتفظ الشعر بسيادته وهيبته للعقود اللاحقة بزهوٍ بالغ، حتّى أنّ الشاعر كان عنواناً أشمل للمثقّف وللثوري، ولبروميثيوس الذي يستجلب كلّ عَقد من السنوات نمطاً جديداً من النار، التي تُعيد إيقاد عيدان الجيل الذي سبق وإيقاظه، وتنقذ الشعر من خفوت رماده ورتابته. على هذا الأساس جرت العادة في العراق، أن يتمّ تصنيف الشعراء عبر تجييلهم عَقديّاً، وهو دمغة لا يتخطّاها اسم أبداً. فمَن كان سبعينياً أو تسعينياً، سيبقى مرتبطاً ضمن تصنيفه النقدي والأنطولوجي بهذا الجيل، وإن تجاوزه على سبيل التجريب والاشتغال نحو تقانات مبتكرة مغايرة.

التجارب الروائية اللاحقة، عانت الظاهرة نفسها باعتبارها إنتاجاً لأعمال متفرّقة ونائية وأكثر وَهْناً من أن تتخطّى حدود محلّيتها، ناهيك بقصورها في تشكيل أفق جديد أو عُضوي يعكس نبضاً مباشراً للواقع، ويقود الجموع كما يفعل الشعر آنذاك على طول مسيرته العربية الطويلة. لكنّ شيخوخة الشعر لها حتميّاتها البيولوجية عالمياً، وليس عراقياً أو عربياً فحسب. فتلك الفورة الأدبية والفنّية التي انطلقت من قلب أوروبا منذ بودلير وحتّى عصر ما بعد الحداثة، بدأ يُسمع صريرٌ في مفاصل عديدة من هياكلها، وصرنا نقرأ دائماً عن أزمة الشعر وغيرها من اصطلاحات، كانت تبريراً ضرورياً لانحسار الشعر لصالح أجناس جامعة مثل السينما أو رافدة مثل الرواية.

وقد أسهم الإيغال اللغويّ في الأشكال الشعرية الجديدة في الأوساط العراقية والعربية ومنها قصيدة النثر، في إغراق الشعر في التلغيز، وأسّس لقطيعة واضحة في التلقّي العربي الذي لم يستقبل مجمل الحداثة الشعرية إلّا بعَين الارتياب أصلاً، بما أنّها حداثة مستوردة ولا تشكّل امتداداً عضوياً لتطوّر اللغة أو التراث العربيّين. وما كان يُعرف بذات التبرير المتعالي بأنّه شعر “نُخبويّ”، انتهى أخيراً في غُرف مبهمة باردة، مُرتهناً بجمهور كثير الخصومة أصلاً.

عراقيّاً يمكن نسبة هذا النوع من العزلة إلى أكثر من دواعٍ حداثوية أو تجريبية لصالح الشعر نفسه، بل هو ظاهرة ثقافية ارتبطت بعدم القدرة على الإفصاح عن شيء، وذلك بسبب ثقل الرقابة المفروضة لعقود من قبل النظام القمعيّ. فما كان من الشاعر إلّا أن تحصّن خلف نوع من التعمية والتهويم، وأخذ يُمعن في تشفير كلماته، ويَعدُ بفكّ شفراتها لاحقاً أي بعد عمر طويل، لم يأتِ أبداً. ونتيجة لهذا الواقع، غاب الشعر تماماً عن حياة المجتمع، وبالتالي لم يعُد ناطقاً ولا مفهوماً، ولا مُعبِّئاً إيدويلوجياً حالماً، ولا صادحاً ثورياً أو ناقداً اجتماعياً ولا سياسياً، ليس في العراق وحده بل في مجمل البلدان. لقد وقف الشعر بعيداً حتّى في أكبر ظاهرة عربية حديثة، وهي محاولات التغيير الأخيرة التي عُرفت بـ”الربيع العربيّ”، حيث غاب فيها تماماً صوت الشاعر، فلم نسمع قصيدة واحدة أو بيتاً تهتف به الجماهير المنشدة للحرّية هنا وهناك. على الجانب الآخر، ربط السرد نفسه بقوّة ثقافية جديدة تدخل كلّ بيت، ويُحتفى بها في دور العرض العالمية، وتمتلك ماكنتها تسويقاً هائلاً للإنتاج ومفاتن كبيرة في الموارد، كما وتلامس الحياة بقوّة كبيرة وتضمّ أخيراً مجموعة من الأجناس الأدبية والفنّية بما فيها الشعر، ألا وهي الفنّ السابع، أي السينما. فأغلب المنتج العالمي المهمّ لهذا الفنّ يستند إلى الرواية، وصنّفت الأفلام الروائية كأحد أبرز حقول اشتغاله، فيما كانت الأفلام التجريبية التي حاولت أن تتبنّى سينما شعرية محدودة هي الأخرى، ووقعت بعض محاولاتها في ذات الفخّ القديم، لأنّها رَكنت إلى النصّ الشعري أكثر من سحبها ذلك النصّ إلى رحابتها وتلويناتها الجاذبة.. باستثناء تجارب قليلة في البعض من المدارس المتقدّمة أو المعاصرة.

الرغبة في الإفصاح، وتداول الفكرة، ومشاركة قول كلّ شي، كان في ما مضى مُضمَراً ومكتوماً وملغّزاً لعقود، يمكن اعتبارها بمجملها جذور البعد الجوهري لانطلاق الأقلام العراقية باتّجاه السّرد بقوّة غير مسبوقة في تاريخهم الحديث. تقول بعض الإحصاءات الموثوقة، إنّ عدد الروايات المطبوعة في العراق خلال السنوات العشر الماضية ناهز530 رواية، وهذا رقم لا يمثّل إدهاشاً كمّياً ونوعياً لجنسٍ أدبيّ بعينه فحسب، بل يعني أيضاً غزواً لسائر الأجناس المعروفة سابقاً. واللافت في هذا الدفق السردي، أنّه لم يكن لا واعياً أو فقيراً في مستوياته الفنّية والرؤيوية، بل هو مُحمّل بذخيرة مؤاتية من الكفاءة والجرأة والابتكار، ممّا حدا بالأوساط الأدبية والمحافل الثقافية العربية والدولية، إلى استقبال هذا المُنتَج المفاجئ بكثير من الترحاب والتكريم والجوائز ذات القيَم الرفيعة. ولقد ربط أوّل مؤتمر للرواية العراقية مطلع هذا العام شعوره بهذا المنحى من الكتابة والحياة وتحدّيات الوجود العراقي، عبر اتّخاذه شعاراً رمزياً تاريخياً، يُعبّر عن محنتَي الكتابة والحياة في الوقت ذاته. فعندما يكون شعار مؤتمر بغداد هو “نحكي لنحيا” فذلك يعكس ارتباط فعل الحكي لدى العراقي بمصيره الوجودي، وتوقّف هذا الفعل سوف يُهدِّد مصيره الحياتي بأكمله، كما يستلهم هنا تعلّق فعل الرّوي لدى شهرزاد بحياتها، فتوقّف السرد ليلة واحدة يعني نهاية لحياتها، وذلك قبل أن تتمّ لياليها الألف والليلة الواحدة، ليتجلّى لها بذلك فعلها التطهيري لا الروائي فحسب. يبدو أنّ تشابك العوامل، والعوامل الموازية لظاهرة انحسار الشعر العراقي لصالح الرواية في العقد الأخير، قابلة أن تلتقي في أكثر من مسار نحو فعل التطهير هذا أيضاً، من دون أن تدّعي الرواية العراقية المعاصرة بأن سيادتها على المشهد هي سيادة مطلقة على بقية مجاوراتها، أو استحواذ على آخر تاج لمملكة الشعر الذي تسلّمت من يمينه وصيّته ومن يساره صولجانه. وهي كذلك، بلا شكّ، لا ترفض المقولة القديمة الأثيرة لدى التاريخ، القائلة إنّ الشعر هو ديوان العرب، لكنّها تقول بإصرار كبير هذه الأيام، إنّ الشعر لم يعُد ديوان العرب الوحيد، وإنّ السينما أصبحت رواية العالم!

*إعلامي وكاتب من العراق
نشرة أفق (تصدر عن مؤسسة الفكر العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى