هل سيعود العصر الذهبيّ مرّة أخرى؟

 

هل يشعر العرب بالعطش والجوع إلى الفلسفة؟ إذا لم يكُن الأمر كذلك فهذه مصيبة أو حتّى كارثة. فبعد هذا الانحطاط والتدمير كلّه لم يبقَ لنا من عزاء إلّا الفلسفة. من المعلوم أنّها حُذفت من تاريخنا ولُعنت بعد موت آخر ممثِّل كبير لها في العام 1198: عنيت ابن رشد. كانوا يقولون: مَن تمنطَق فقد تزندَق، أو كان يتفلسف لعنه الله، إلى آخر هذه الكليشيهات الموروثة عن فقهاء عصر الانحطاط والظلام. ولكنّ عصر النهضة في القرن التاسع عشر أعاد لها الاعتبار. ومع ذلك تبقى الفلسفة مجهولة من قبل جماهير المتعلّمين إن لم نقل المثقّفين.

نقصد تاريخ الفلسفة منذ بداياتها الأولى أيّام سقراط وأفلاطون وأرسطو وحتّى اليوم، مروراً بالقمم الكبرى من أمثال ديكارت وسبينوزا ولايبنتز وكانط وهيغل ونيتشه وماركس وهيدغر وبيرغسون وحتّى فوكو وهابرماس في وقتنا الحاضر. أعتقد أنّ أفضل طريقة لمُواجَهة المَوجة الأصوليّة الداعشيّة الهاجِمة علينا حاليّاً تتمثّل في تعليم الفلسفة وفرْضها على جميع بَرامج التعليم العربيّة. لحُسن الحظّ، فإنّ المَملكة العربيّة السعوديّة قرَّرتها كمادّة مهمّة في برامج التعليم الثانوي، بدءاً من العام 2019. وهذا حدثٌ تاريخي بالمعنى الحرفي للكلمة لأنّها كانت ممنوعة سابقاً بحجّة أنّها تشكِّل خطراً على الدّين. ينبغي العِلم بأنّ الفلسفة ليست مُعادية للدّين في المطلق وإنّما للأصوليّة الدينيّة. وهُما شيئان مُختلفان. فهناك فلاسفة متديّنون كِبار من أمثال كيركيغارد وغابرييل مارسيل وبول ريكور وآخرين. ولكنْ عموماً، فللدّين مَجاله وللفلسفة مَجالها ولا ينبغي الخلط بينهما. إنّهما متكاملان وليسا مُتعارضَين اذا ما فهمنا وظيفة كلّ منهما بشكل جيّد. وهذا ما نبَّه إليه كبير فلاسفة الأنوار كانط عندما قال: “لقد أوقفتُ العقل عند حدّه لكي أفسح المجال للإيمان”. فالعقل مهمّته استكشاف القوانين الماديّة للطبيعة والكون. ولكنْ بعد أن يفرغ من مهمّته هذه، وبعد أن يصول ويجول في الاتّجاهات كافّة، وبعد أن يستنفد كلّ طاقاته وإمكانيّاته، لا يعود يستطيع أن يتقدَّم خطوة واحدة إلى الأمام. عندئذ تبتدئ وظيفة الدّين الذي يقول لنا ماذا سيحصل بعد الموت؟ وإلى أين سنذهب؟ وماذا سيحصل في الآخرة؟ ويجيب عن بقيّة أسئلتنا الميتافيزيقيّة الماورائيّة. ونحن نقول: لأنّ المُسلمين في عصر الانحطاط وبعد أفول العصر الذهبي الأوّل لم يفهموا ذلك، شَتموا الفلسفة وحرَّموا التعاطي معها واعتبروها مؤدّية إلى الكفر. والواقع أنّها ليست تهديداً للدّين إلّا في صيغته الانغلاقيّة المُتزمّتة فقط. هذا شيء مؤكّد. ولذلك ينبغي إدخالها وبكثافة إلى بَرامج التعليم العربيّة لمُكافَحة الآثار الضارّة للتربية الأصوليّة الظلاميّة المُهيمِنة علينا تاريخيّاً: أي منذ انتصار الحنابلة على المعتزلة، ثمّ تكفير الغزالي للفلسفة والفلاسفة في كِتابه الشهير “تهافُت الفلاسفة”. وقد ردّ عليه ابن رشد بعد سبعين سنة بكِتاب لا يقلّ شهرة إن لم يَزد “تهافُت التهافُت”، أي تهافُت أعداء الفلسفة. ولكنّ ابن رشد، وعلى الرّغم من ردّه القوي، فشل في عكس التيّار الانحداري أو الانحطاطي الجارِف، لأنّ العالَم الإسلامي كان قد غاص رويداً رويداً في غيبوبةٍ فكريّة لم يستيقظ منها بشكلٍ من الأشكال حتّى الآن. لا ريب في أنّ العصر اللّيبرالي العربي أو عصر النهضة الممتدّ منذ بدايات القرن التاسع عشر وحتّى العام 1950 كان قد قدَّم إنجازات كبرى لا يُستهان بها في مجال الانفتاح على أوروبا والحضارة الحديثة والخروج من مُستنقع الجمود والتكرار والاجترار. وهي تشكّل العصر الذهبي الثاني للعرب. يكفي أن نذكر هنا أسماء شخصيّات نهضويّة فذّة من أمثال: رفاعة رافع الطهطاوي، وجمال الدّين الأفغاني، ومحمّد عبده، وبطرس البستاني، ويعقوب صرّوف، وجرجي زيدان، وعبّاس محمود العقّاد، وشبلي شميّل، وطه حسين، وفرح أنطون، وجبران خليل جبران، وميخائيل نعيمة، ومحمّد حسين هيكل، وعشرات غيرهم. مَن يستطيع أن يقدِّر حجم التجديد أو الدمّ الجديد الذي بثّه جبران ونعيمة وعبد المسيح حدّاد ورفاقهم في أوصال ثقافتنا العربيّة الجامدة عندما أسَّسوا الرابطة القلميّة في نيويورك في العام 1920؟ لم يجدِّدوا الأدب العربي فقط، وإنّما جدَّدوا أيضاً الفكر العربي، بل وحتّى اللّغة العربيّة ذاتها. أنظروا كِتاب “الغربال” لميخائيل نعيمة. لم يشخ ولم يبله الزمن حتّى اللّحظة. وهذا من فضائل المهجر علينا، لأنّه في المهجر تكمن الحريّة. ثمّ: فاغترب تتجدّد!

لكنّ هؤلاء النهضويّين الأفذاذ على أهميّتهم لم يتجرّأوا على الخروج من السياج الدوغمائي المُغلق والمتحجّر للاعتقاد الأصولي الراسخ منذ مئات السنين، بل وحتّى طه حسين لم يتجرّأ على ذلك أو قلْ لم يعرف كيف يُنجز هذه المهمّة الأخطر بالنسبة إلى الفكر العربي. ومعلوم أنّه انخرط بعد فترته التنويريّة التي كلّفته غالياً في كتابة سلسلة الإسلاميّات بغية نَيل رضا الشارع الإخواني الأصولي. نقصد بفترته التنويريّة تلك، الفترة التي شهدت ظهور كُتبه الكبرى مثل “مستقبل الثقافة في مصر”، أو “في الشعر الجاهلي”، أو سواهما من الروائع الأدبيّة والفكريّة، بل ولم يتجرّأ عليها مَن أتوا بعده من أمثال الجابري والعروي وسواهما. وحده محمّد أركون عرف كيف ينفِّذ هذا البَرنامج النقدي الأركيولوجي العميق بفضل ثقافته الواسعة عربيّاً وأجنبيّاً، إسلاميّاً ومسيحيّاً. ثمّ بفضل سيطرته التامّة على المنهج والمصطلح. وهكذا ابتدأ العصر الذهبي الثالث للعرب. وهو شيء لم يتوافر لدى أيّ شخصيّة فكريّة على مستوى العالَم العربي، بل ولا حتّى الإسلامي ككلّ. للحقّ والإنصاف ينبغي أن نضيف إليه عبد الوهّاب المؤدّب الذي تجرّأ على قول أشياء لا أستطيع ترجمتها مجرّد ترجمة إلى العربيّة، لأنّ الرؤوس تُقطع عليها. وهناك الآن شخص ثالث يقدِّم أبحاثاً أنواريّة تجديديّة عن تراث الإسلام هو عبد النور بيدار. كلّهم خرجوا من باريس عاصمة الأنوار في القرن الثامن عشر بالنسبة إلى أوروبا كلّها في ذلك الزمان. والآن أصبحت عاصمة الأنوار بالنسبة إلى العالم العربي والإسلامي. فكما أنّها نجحت في تنوير أوروبا سابقاً فقد تنجح في تنوير العالَم العربي لاحقاً.

ثلاث ثورات فكريّة

لكن ما الذي نقصده بالخروج من السياجات الدوغمائيّة المُغلقة للاعتقاد اللّاهوتي؟ نقصد ما فعله فلاسفة الأنوار في أوروبا بدءاً من سبينوزا في النصف الثاني من القرن السابع عشر وحتّى كانط في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، مروراً بجان جاك روسّو وديدرو والموسوعيّين وفولتير “أكبر محرِّر للروح البشريّة” بحسب نيتشه. ما فعله هؤلاء المفكّرون الكِبار بالنسبة إلى الاعتقاد المسيحي لم يتجرّأ على فعله أيّ مثقّف مُسلم أو عربي بالنسبة إلى النواة الصلبة للاعتقاد اللّاهوتي الإسلامي. كلّهم كانوا يجبنون ويرتعشون خوفاً ما إن يصلوا إليه. كلّهم كانوا يتراجعون أو ينكصون على أعقابهم صاغرين ما إن يقتربوا منه. وحده أركون تجرّأ واقتحم بكلّ ألمعيّة واقتدار. من هنا أهميّة هذا المفكّر العملاق الذي قسَّم تاريخ الفكر الإسلامي إلى قسمَين: ما قبله وما بعده. لكن ماذا نعني بالسياج الدوغمائي المُغلق؟ نعني ذلك السور الاعتقادي المُحاط بالأسلاك الشائكة والذي لا يعود مَن يدخله قادراً على الخروج منه، لأنّه يؤمِّن له طمأنينة مُطلقة. إنّ المتديّن الأصولي بهذا المعنى، هو شخص يكفِّر جميع الأديان والمَذاهب الأخرى ولا يستطيع إلّا أن يكفِّرها لأنّه مُنصهر كليّاً داخل جدران دينه وطائفته. إنّه محبوس بالمعنى الحرفيّ للكلمة داخل السياج الدوغمائي المُغلق على ذاته من الجهات كلّها. ولهذا السبب يجد الأصوليّون أنفسهم سجناء مذاهبهم وطوائفهم ولا يستطيعون منها فكاكاً. وعن ذلك تنتج الظاهرة الداعشيّة والذبح على الهويّة.

إنّ العصر الذهبي الثالث للعرب مدعوّ لتحقيق أكبر ثورة فكريّة أو طفرة معرفيّة عظمى في تاريخنا. إنّه مدعوّ إلى تحقيق ما عجز عنه العصران الذهبيّان الأوّل والثاني.

وهذه الثورة الفكريّة سوف تحصل على مَدار العشرين أو الثلاثين سنة القادمة: أي على أُفق 2030 أو حتّى 2050 بغية إحداث تغييرٍ جذريّ في صميم الفكر العربي. عندئذ سوف تتهاوى يقينيّات لاهوتيّة جبّارة كانت راسخة رسوخ الجبال وكنّا قد رضعناها مع حليب الطفولة. عندئذ سوف ترتعد الفرائص! وهنيئا لمَن يعِش حتَى يشهد ذلك اليوم الموعود؛ ذلك أنّ التغيير الفكريّ بطيء وصعب وطويل الأمد. التغيير المادّي أسهل بكثير. ولذلك قال بعضهم: إنّ زحْزَحة الجبال أسهل من تغيير العقليّات. لا تتوقّعوا أن تنتهي العقليّات الطائفيّة المتحجّرة غداً أو بعد غد. لا تتوقّعوا أن تزول بضربة عصا سحريّة. هذه عمليّة شاقّة جدّاً وعسيرة جدّاً جدّاً. ولن تتحقّق قبل انتصار التنوير العربي على الظلمات العربيّة. لكي تتحقّق هذه الطفرة المعرفيّة الكبرى ينبغي أن تهضم اللّغة العربيّة ثلاث ثورات فكريّة أساسيّة: عِلميّة، وفلسفيّة، ودينيّة: أي كلّ فتوحات الحداثة. وأضيف إليها ثورة فكريّة رابعة تتمثّل في ترجمة الأعمال الكبرى للاستشراق الأكاديمي. نعم الاستشراق! فقد قدَّم خدمات جلّى عن طريق تطبيق المنهجيّة التاريخيّة – النقديّة على تراثنا المقدَّس للمرّة الأولى في التاريخ. هل هذا قليل؟ ينبغي أن تهضم اللّغة العربيّة ذلك كلّه وتصهره في بوتقتها الخاصّة كي يحصل التحرير الكبير المُنتظَر.

نشرة أفق (تصدر عن مؤسسة الفكر العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى