في بعض إشكاليات العدالة الانتقالية

غالباً ما ينصرف الذهن عند الحديث عن الإجراءات التي تعالجها العدالة الانتقالية إلى الحقوق السياسية والمدنية، لاسيما في مساعدة المجتمعات المضطهدة على التحول إلى مجتمعات تتجه نحو الحرية في إطار عملية انتقال ديمقراطي قد تكون طويلة ومعقدة، وذلك عن طريق تسوية مظالم الماضي وفقاً لتدابير تحقق لها مستقبلاً أفضل، ومن خلال الوصول إلى تحديد الجرائم والانتهاكات التي ارتكبت خلال النزاعات أو الحروب أو انهيار أنظمة قانونية أو عبر حكومات الاستبداد والعسف أو في ظل الاحتلال أو غير ذلك .

وإذا كانت تلك التدابير قد أخذت طريقها الفقهي والعملي بالنسبة إلى الحقوق السياسية والمدنية، فإن المعالجات والتدابير لا تزال قاصرة بشأن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وهي الأسباب الجذرية للنزاعات والصراعات مع الأنظمة الدكتاتورية والقمعية، الأمر الذي يتطلب التصدي لمعالجة هذه الحقوق من خلال تدابير اقتصادية واجتماعية وثقافية، وذلك بهدف استكمال الحقوق الأخرى، التي من دونها لا يمكن تلبية متطلبات العدالة الانتقالية قانونياً أو بوسائل أخرى سياسية اجتماعية اقتصادية ثقافية، لاسيما في جانبها العملي .

إن الإخفاق في تحقيق وإعمال الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الواردة في الشرعة الدولية ممثلة بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر في العام ،1948 والعهد الدولي الصادر عن الأمم المتحدة في العام 1966 الذي دخل حيز التنفيذ في العام ،1976 فضلاً عن أن انتهاكها يمكن أن يكون من الأسباب الجوهرية للنزاعات، واستمرار الصراعات وغالباً ما يؤثر ذلك في الفئات الضعيفة في المجتمع .
وعلى الرغم من التطور في ميدان العدالة الانتقالية، فلم يتم إدراج الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في إطار برنامج شامل لمعالجة آثار الماضي، ويعتقد البعض أن ذلك يعود إلى الطابع الاستثنائي والمؤقت لآليات العدالة الانتقالية ومحدودية مواردها البشرية والمادية، وقد يكون توسيع نطاقها فيه ما يثقل كاهل آلياتها وقد تؤدي إلى إفشالها، ولكن مثل هذا الأمر يتطلب معرفة أفضل السبل للربط بين العدالة الانتقالية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية من خلال مبادئ محددة، إضافة إلى أهمية معرفة العقبات والتحديات التي تواجه ذلك، ولعل ذلك ما توقفت عنده المفوضية السامية لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة . إن عمل الأمم المتحدة بخصوص العدالة الانتقالية سواء بشقه السياسي والمدني أو بشقه الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، إنما يستند إلى القانون الدولي لحقوق الإنسان (أي وقت السلم) والقانون الدولي الإنساني (لاسيما خلال الحروب والنزاعات) والقانون الدولي الجنائي الذي يمكن أن يتوجه بمقاضاة المرتكبين، والقانون الدولي للاجئين الذي يعالج المشكلات الإنسانية .

أربعة مبادئ أساسية لحقوق الإنسان تشكل إطاراً للعدالة الانتقالية وهي:

1- التزامات الدول بالتحقيق بالانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان والانتهاكات الخطيرة للقانون الدولي الإنساني .
2- الحق في معرفة الحقيقة بشأن انتهاكات الماضي ومصير الأشخاص المختفين .
3- الحق في جبر الضرر المادي والمعنوي لضحايا انتهاكات حقوق الإنسان، وكذلك في تعويض الضحايا وأسرهم .
4- التزام الدول في منع تكرار مثل تلك الارتكابات في المستقبل، والتعهد بإصلاح الأنظمة القانونية والقضائية والأمنية .

ومن الآليات المتبعة على هذا الصعيد:

1- استجلاء الحقيقة: مثلاً تشكيل لجان تقصي الحقائق .
2- اعتماد آليات قضائية للفصل في الشكاوى، أي إنشاء (محاكم) وطنية أو دولية أو مختلطة .
3- اعتماد آليات لجبر الضرر العام للضحايا سواء كان مادياً أو معنوياً .
4- اعتماد آليات التعويض للأشخاص وعوائلهم .
5- اعتماد آليات الإصلاح المؤسسي، من خلال الفحص والتدقيق وإعادة النظر والتغيير للمؤسسات القانونية والقضائية وجهات إنفاذ القانون .

ويتطلب الأمر أحياناً تحديد ولايات معينة وأطر زمنية لتنفيذ ذلك، كأن يكون بعضها مؤقتاً ومحدوداً وبعضها طويل نسبياً، مثلما يمكن أن تكون الآليات وطنية أو دولية أو إقليمية أو مختلطة، مثلما هي محكمة البلدان الأمريكية لحقوق الإنسان التي قدمت مساهمات مهمة على صعيد العدالة الانتقالية وهناك تجارب أخرى .

وحتى لو كانت مساهمة إجراءات العدالة الانتقالية محدودة بسبب نقص الموارد الاقتصادية والبشرية، إلا أنها على الرغم من ذلك تتسم بالأهمية المعنوية ولإعادة تثقيف المجتمع، وهو ما يقتضي أن تشمل الجوانب والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية .

وهنا لا بد من التأكيد على أن هذه الحقوق هي جزء من منظومة الحقوق العامة، وهذه الأخيرة لها طابع عالمي، أي كوني، وشامل، بمعنى غير قابل للتجزئة، كونها مترابطة مع بعضها بعضاً، وهدفها هو حماية الإنسان وكرامته، سواء بالامتناع عنه (الجانب السلبي) أو بالقيام ب(الجانب الإيجابي) الشروط التي تضمن العيش الكريم وتكفل للإنسان التحرر من الخوف والفاقة وتتوخى تحسين حياة الإنسان .
وترد الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، كما جاء في الإعلان العالمي الصادر العام 1948 (المواد 22 – 27) والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فيما يتعلق الحق في العمل والحق في تشكيل النقابات وحماية الأسرة والأمومة والطفولة والضمان الاجتماعي والمستوى المعيشي بما يشمل الغذاء والكساء والسكن والصحة والتعليم والمشاركة في الحياة الثقافية وفي الاستفادة من التقدم العلمي وحماية المصالح المعنوية والمادية لمؤلفي الأعمال العلمية والفنية والأدبية، أي الحق في الملكية حيث يرد ذلك بخصوص المنازل والأراضي المتوارثة بالنسبة للشعوب الأصيلة والحصول على تعويضات عن الفصل التعسفي والحق في الضمان الاجتماعي .

وقد أقرت العديد من الاتفاقيات الملزمة هذه الحقوق غير القابلة للمفاضلة أو للانتقائية، منها الاتفاقية الدولية للقضاء على أشكال التمييز العنصري لعام ،1965 والاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة لعام ،1979 واتفاقية حقوق الطفل لعام ،1989 واتفاقية حماية حقوق جميع العمال المهاجرين لعام ،1990 واتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة لعام ،2006 وتشكل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية مادة أساسية في اتفاقيات العمل الدولية ومن إعلان حقوق الشعوب الأصلية لعام 2007 . وترتبط بموضوع العدالة الانتقالية وعدم الإفلات من العقاب أعمال الإبادة الجماعية وتدمير الحياة المعاشية وأعمال الحصار وعمليات التجويع وهو ما أخذت به اتفاقيات جنيف الأربع للعام ،1949 استناداً إلى اتفاقيات لاهاي لعام 1907 وكذلك بروتوكولي جنيف لعام 1977 حول “حماية ضحايا المنازعات الدولية المسلحة” و”حماية ضحايا المنازعات المسلحة غير الدولية”، وخصوصاً حقوق الجرحى والمرضى بما له علاقة بالحق في الصحة، وكذلك حقوق الأسرى والسكان المدنيين بشكل عام .

ويجب ألا ننسى كفالة القانون الدولي لحقوق اللاجئين الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، طبقاً لاتفاقية العام 1951 المتعلقة بالمركز القانوني للاجئين، وكذلك ملحقها لعام 1967 بما يضمن حق الحياة والعيش بسلام وتأمين الحماية الضرورية، وكذلك حقوق العمل والتعليم وتكوين الجمعيات وحرية التعبير وغير ذلك .

ويقع على الدولة التزام حماية الأفراد وتمتعهم بحقوقهم على أساس المساواة وعدم التمييز بسبب العرق أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي السياسي أو غير السياسي، ولعل أي انتهاكات لهذه الحقوق تشترط إنشاء آليات للمساءلة يسهل الوصول إليها وتتسم بالشفافية والفعالية .

وقد جرت خلال العقود الثلاثة الماضية تطورات على هذا الصعيد دولياً وإقليمياً للوصول إلى تحقيق العدالة، بعضها قضائي وقانوني بالطبع، وبعضها الآخر باعتماد آليات شبه قانونية أو شبه قضائية لمعالجة الانتهاكات في الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ولربط العدالة الانتقالية بتأمين هذه الحقوق، وذلك عبر تشكيل لجان تقصي حقائق ولجان للمصالحة والحقيقة ومعالجة الجرائم الاقتصادية وتهريب ونهب الأموال وغير ذلك .

صحيفة الخليج الاماراتية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى