في خلفية الصراع الخليجي (حسين غباش)

 
حسين غباش 

لا جديد في الخليج. يصعب على المرء رؤية تغيير حقيقي نتيجة ما عرف بـ«الربيع العربي». ولا يمكننا في الوقت ذاته القول بأن أي تغيير لم يحدث. ثمة تغيير في الوعي السياسي في المنطقة كلها. هناك إصلاحات تختلف من بلد إلى آخر. منطقة الخليج تعيش تحولاتها الخاصة. الكل يعيش تحولاته وفق حجمه السكاني وطبيعة نظامه السياسي وثقافته. ولكل مساره التاريخي وإيقاعه. تبقى المملكة العربية السعودية حالة خاصة.
كل التوقعات تشير الى تغيير ما قادم من الخارج لا محالة. والخارج هو أميركا. لكن هذا لا يشمل الجميع. السؤال هو ماذا في جعبة الغرب من نوايا لهذه المنطقة ؟
في البدء، تحدثت مراكز الأبحاث الاميركية عن استراتيجية للألفية الثالثة. لا يتعلق الأمر هنا باستراتيجية سرية. الأمر معلن ومعروف. ساحة الصراع الرئيسية القادمة هي منطقة الأوراسيا. وهي التي ستحدد الخطوط العريضة للمشهد العالمي في المستقبل. مركزية تلك الاستراتيجية تتمحور حول تطويق الصين أولا، وروسيا ثانيا. وإذا كان ذلك هو المحور الرئيس من الاستراتيجية الكبرى، فإن الشق الآخر منها، كما يبدو، معني بمنطقة الخليج.
ثمة قول ساذج بأن منطقة الخليج لم تعد تحظى بأهمية بالنسبة للولايات الأميركية، وأنه سيكون لأميركا نفطها وطاقتها. لكن اهتمام واشنطن بمنطقة آسيا لا يعني البتة إهمال منطقة الذهب الأسود الأولى. هذه المنطقة تبقى مهمة إلى أن تجف آبارها. السؤال يتصل بكيفية المحافظة عليها ضمن المشروع الألفي القادم. كيف يمكن تحصينها وإبعادها عن الإضطرابات بأنواعها المتوقعة والمجهولة؟ تحتضن المنطقة أكبر قاعدتين للولايات المتحدة خارج أراضيها: قاعدة العديد في قطر، والقاعدة البحرية للأسطول السادس في البحرين. وكل الحكومات في المنطقة هي حكومات صديقة. مع ذلك، يبدو أن هذا لم يعد كافيا في التصور الأميركي لمستقبل المنطقة.
منذ سقوط بغداد بدأت تتكشف لنا التوجهات الأميركية الجديدة. أولى الإشارات أتت ضمن تصريحات رسمية لافتة. قيل حينها ان الولايات المتحدة دعمت الدكتاتوريات العربية منذ قرابة الخمسين عاما، وقد حان الوقت لتغيير تلك السياسات. كانت هذه التصريحات مثار دهشة. لكن الامر بدأ بالتبلور شيئا فشيئا. نتج عن الأمر بلقنة العالم العربي. بمعنى تقطيعه أوصالا. لكن الحدود لم تكن سياسية هذه المرة، بل حدود مذهبية. فكل مذهب سيعطى قطعة أرض وزعيم يدعي التقوى. وما عليك إلا تخيل المستقبل.
وإن كان ثمة مشروع مطروح منذ زمن للدول المحيطة بإسرائيل، فإن طرح مشروع خاص بمنطقة الجزيرة كان مفاجئا فعلاً، لأن السعودية حليف استراتيجي للولايات المتحدة، ولأن إضعاف المملكة ليس من صالح أميركا. لكن هل يمكن أن نتصور أن أميركا تقسم البلدان الحليفة لها؟ الإجابة، بالتأكيد نعم، اذا كان الأمر يخدم المصالح الأميركية على نحو مباشر أو غير مباشر واذا كان ذلك يخدم حلفاء أميركا.
ثمة اعتقاد جاد يذهب بهذا الاتجاه. قطر حليف للولايات المتحدة أيضاً. بل أهم استراتيجياً من السعودية نظرا إلى كمية الغاز المتوفرة في هذه الجزيرة الصغيرة. فهي ليست قاعدة عسكرية فحسب، بل مخزن لا ينضب للطاقة والمال للولايات المتحدة. وقطر تعيش صراعاً حقيقياً مع المملكة السعودية. وكثيراً ما سمعنا عن مخطط سعودي لاستبدال السلطة فيها. وفي نظر القطريين، فإن تقسيم السعودية إلى ثلاثة أقسام، سيقيها الخطر السعودي المحدق بها، وستتحول منطقة الخليج إلى دويلات صغيرة يسهل تطويعها. وهذا بالطبع يخدم الولايات المتحدة، ويصب في ذات الوقت في الاستراتيجية الإسرائيلية. وقد سرب تسجيل هاتفي لرئيس الوزراء ووزير الخارجية الأسبق حمد بن جاسم يتحدث فيه عن مشروع تقسيم المملكة، ولكن سريعا ما تم إخفاء التسجيل وحذفه من التداول. ألا يمكن تفسير كل ذلك ضمن الاستراتيجية الألفية التي تتحدث عنها المؤسسات الأميركية المختلفة؟
هذا ما يفسر أيضاً وجود محطة «الجزيرة» في قطر، والتي يعتبرها الوزير جيش الدوحة الضارب. وكأي مشروع إعلامي، تم تأسيس هذه المؤسسة النافذة لتحقيق أهداف محددة. هذا المشروع الضخم لم يأتِ لتذكير الناس بحقوقهم أو بمسؤولياتهم. فرسالتها ليست خيرية. كانت الشكوك تحوم حولها منذ تأسيسها. أولاً، لجرأتها في طرق مواضيع حساسة بالنسبة لبعض الدول العربية عموماً وثانياً، لتركيزها شبه المستمر على المملكة السعودية على نحو خاص. وما أثار الشك الحقيقي هو إثارتها المكثفة لموضوع الديمقراطية، وبالتالي تقديمه كعنوان للمرحلة القادمة للعالم العربي. وقد تمكنت بسرعة لافته من بناء نفوذها الفاعل واختراق الوعي العام في البلاد العربية. وخلقت لها قاعدة عريضة من المشاهدين.
مع مجيء ما سمي بـ«الربيع العربي»، اتضحت الصورة أكثر، ولم يعد خافياً على الكثيرين الدور الذي تأسست «الجزيرة» من أجله. فهي لم تكن جيش الدوحة الضارب، بل جيش وزارة الخارجية الأميركية الهدام. كانت، جوهرياً، جيش المحافظين الجدد. كلفت «الجزيرة» بمهمة تهيئة الشعوب العربية لتستقبل استراتيجية الشرق الأوسط الجديد بكل ما يعني ذلك من تدمير للمجتمعات العربية وتركيباتها الوطنية والدينية والسياسية. كانت عاملاً رئيساً في خلق أرضية الفوضى الخلاقة. وما كان مثار استغراب حقا، أن هذه المؤسسة التي تبدو ليبرالية، بل علمانية المظهر، بدت وكأنها الممثل الحصري «للإخوان المسلمين». وأكثر من ذلك، كانت تتبنى المشروع القاعدي من «الاخوان». كانت تقدم الديمقراطية ومعها «القاعدة» على طبق واحد.
تلك هي خلفية الرد السعودي ضد قطر وما تبعها من سحب سفراء ثلاث دول خليجية. في الماضي كل الاحتجاجات على «الجزيرة» لم تغير من الموقف القطري. وكان السؤال، المحير إلى حد ما، هو، من أين لقطر، التي لا يتعدى عدد سكانها الأصليين المئة ألف نسمة كل هذه القوة والجرأة؟ من يرسم لها سياسات؟ من يعطيها الضوء الأخضر؟ هل يمكن تخيل أن احتجاجات أربع دول خليجية ضد قطر وجزيرتها لا تجد آذانا صاغية في الدوحة؟ بالطبع، قوة قطر لم تأتِ من عبقريتها، بل ممن ينفذ مشاريعهم الكبرى. حدث ما حدث في ليبيا وسوريا. وعندما وصل الأمر الى الجزيرة العربية، كان لابد من موقف قوي تجاه ذلك.
غالبا ما تقيم الأمور بخواتيمها. استمرار الموقف القطري على حاله يعني استمرار الصراع مع المملكة وحلفائها من دول الخليج. وهذا أمر يصعب تصوره في المنطقة. مقررات وزراء الخارجية في الرياض لن تكفي هذه المرة. الامر أعمق من ذلك. هنالك مواقف يجب ان يطرأ عليها تصحيح حقيقي. سيتوجب على الدوحة، إن كانت تملك قرارها، مراجعة كل مواقفها السابقة تجاه محيطها الإقليمي والعربي. في المقابل، على المملكة، أيضاً، ان تكف عن فرض نفوذها على دول الخليج. فاطروحة الأخ الأكبر لم تعد قائمة في زمن السيد الأكبر. يبقى أنه اذا كان للطرفين قرارهما المستقل فعلاً، فقد حان الوقت لمراجعة مواقفهما من دمشق، أقله، لأن تدمير سوريا جزء من مسار تدمير الأمة العربية كلها.

صحيفة السفير اللبنانية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى