في مأزق الحوار السوري

أكدنا مِراراً أن المخرج من الأزمة السورية ينحصر في توافق السوريين على صيغة حل سياسي يُعبّر عن مصالحهم وليس مصالح فئات متصارعة محكومة من خارج الحدود. لكنَّ انتزاع أوراق الحل من أيديهم وضعهم أمام حائط مسدود، وحوّلهم إلى رهينة لمجموعات متطرفة طارئة وصراع امبريالي. فيما تم تحويل سوريا إلى حلبة صراع مفتوح لجهاديين يخترقون حدود الجنسية والقومية، هذا في وقت يتمسّك فيه المتنفذون داخل الحكومة وخارجها بالبنية الأحادية للسلطة ويرفضون أي تغيير في بنية النظام السياسية، إلا ما كان في إطار البنية ذاتها وتحت إشرافهم.

بالوقوف على مفهوم الحل السياسي، يبدو من الواضح أنه بات محلَّ إجماع كل الأطراف الدولية والإقليمية، وكذلك الحكومة السورية والمعارضة. لكنه يحمل أوجهاً كثيرة من التباين والتداخل والتناقض، حتى إن مقدماته الأولية تحوّلت إلى مدخل للتناقض. والسوريون يدركون أن صراع الأطراف الدولية والإقليمية في سوريا وعليها، كان من العوامل التي أعاقت، ولم تزل، التوصّل إلى حل سياسي. كذلك فإن المجموعات المسلحة لم تخرج عن كونها أدوات مرتهنة لمصادر التمويل. وهذا ينطبق على معارضات يرتبط وصولها إلى السلطة بمصالح دولية وإقليمية متصارعة. حتى إن الدول التي تدعم بقاء النظام لا تخرج عن السياق المحكوم بالمصالح ذاته. في المقابل، فإن المعارضة الداخلية التي يصنّفها البعض بالوطنية، وآخرون بأنها من ملحقات النظام، تعاني من فائض الضعف والتشتت، ومن تجاهل الأطراف الدولية والإقليمية الداعمة لـ«الثورة».

في هذا المشهد المركّب والمتداخل، تتعرض كيانية الدولة وبناها الاقتصادية لتدمير ممنهج، فيما النسيج الاجتماعي يتم تفكيكه وتذريره. أما الروابط الوطنية فإنها مهددة بالتحلل. في هذا السياق، بات الحل السياسي رهينة أطراف متناقضة ومتصارعة. فالمجموعات الإسلامية ترى أن الحل السياسي ينحصر في إقامة «دولة إسلامية»، في وقت تقاتل فيه من أجل إرساء دعائمها مجموعات طارئة على التاريخ السوري. أما مضمونها الفكري والأيديولوجي فإنه غريب عن تقاليد وثقافة السوريين وتراثهم الإسلامي المعتدل. وترى هذه الأطراف أن تحقيق مشروعها لا يتحقق إلا بإسقاط «النظام النصيري»، وهذا بحد ذاته يدل على مشروع طائفي فاشي سيقود سوريا والسوريين إلى أشد أشكال التخلف والتطرف. والأخطر أنه سوف يساهم في استطالة التدمير الذاتي. أما أطراف المعارضة الخارجية (الائتلاف وتفرعاته) فإنها تعاني من فشل سياساتها ورهاناتها الدولية، وتلاعب الأطراف الدولية بمكوناتها وآليات اشتغالها السياسية. هذه الأطراف ومن يمثلّها من مجموعات مقاتلة، لا تزال تتمسك بالآليات والأهداف السياسية نفسها التي أثبتت مجريات الأزمة فشلها. هذا في لحظة تُعيد فيها بعض الدول التي ساندت «قوى الثورة» حساباتها ومواقفها من النظام، وتحديداً من مستقبل الرئيس.

ومع ذلك، لا تزال تلك المعارضات ترى أن المدخل إلى الحل السياسي ينحصر في إسقاط النظام، فيما بعض المجموعات المتقاتلة ترى أن مصالحها تكمن في استمرار الصراع، ولا يعنيها أي توافق سياسي. وجميع هؤلاء بالنسبة إلى غالبية الشعب السوري يدافعون عن أوهام السلطة المعمّدة بدماء السوريين.

أما في ما يتعلق بتيارات المعارضة الداخلية (ورغم إدراكنا بعدم إمكانية الفصل بين الخارج والداخل في هذا المستوى لأن الموقع الجغرافي ليس هو المحدد الوحيد) فإن بعض أطرافها تلهث للمشاركة في أي حوار سياسي، وتوافق على المشاركة السياسية أياً يكن مستواها وشكلها ونتائجها السياسية على مستقبل سوريا. كما بات بعضها الآخر يرى أن المشاركة في حكومة انتقالية يمكن أن تكون خطوة أولى في طريق تحقيق مشروعها الوطني الديموقراطي. وهذا ينطبق على تيار التغيير السلمي، جبهة التغيير والتحرير، تيار بناء الدولة وهيئة التنسيق الوطنية. ورغم محاولات الهيئة المتكررة للتنسيق مع معارضة الخارج، لكن التصلّب الإخواني وهيمنته على المجلس الوطني أولاً والائتلاف تالياً، كان يعيق أي عمل مشترك بين معارضة الداخل وتشكيلات المعارضة في الخارج. وظهر هذا جلياً في إفشالهم المحادثات بين إعلان دمشق والهيئة لتشكيل الائتلاف الوطني عام 2011، وكان ذلك بسبب رفضهم طلب الهيئة لرفض العنف والتدخل الخارجي. وفي العام ذاته أعلنوا مع إعلان دمشق عن تشكيل «المجلس الوطني» انطلاقاً من مراهناتهم على إعادة السيناريو الليبي في سوريا. كذلك رفضوا في مؤتمر القاهرة في تموز 2012 أن يكون للمعارضة السورية «لجنة متابعة» رغم تصويت غالبية المؤتمر على ذلك. ورفضوا مع «إعلان دمشق» أن يتضمن البيان الختامي للمؤتمر تأييداً لبيان «جنيف 1». كما أنهم اشترطوا على الهيئة أن يكون تمثيلها إلى «جنيف 2» شخصياً. هذه العوامل كانت تدفع هيئة التنسيق إلى الانكفاء على ذاتها والانتظار، مع العلم بأن شريحة واسعة من السوريين ترى أن توجهات الهيئة السياسية وآليات اشتغالها تجعلها من أكثر الأطراف السياسية عقلانية. لكنَّ محاولتها الأخيرة للتنسيق مع الائتلاف تعيد للأخير بعضاً من الشرعيّة. هذا في لحظة بات فيها الغرب يدرك أن الائتلاف لا يمثل الشعب السوري، ورغم كل الانتكاسات والانكسارات والانقسامات التي يعاني منها فإنه لا يزال يعتبر نفسه ممثلاً وحيداً للشعب السوري. ومن هذا المنظور يحاول تعميم رؤيته السياسية على جميع الأطراف السياسية. وإضافة إلى ذلك، فإنه يرفض مشاركة القوى والهيئات السياسية بصفتها السياسية في أي مؤتمر دولي ويشترط أن تكون مشاركتها شخصية، وضمن إطاره، ويضع فيتو على مشاركة بعض السياسيين لأسباب سياسية وأخرى شخصية. هذا في وقت لا تزال فيه هيئة التنسيق الوطنية وتيار التغيير السلمي، جبهة التغيير والتحرير، تيار بناء الدولة يعانون من تراجع حضورهم الاجتماعي، واستمرار بقائهم بين مطرقة نظام أحادي يحتكر الحياة السياسية، وسندان تكتلات سياسية ليبرالية وإسلامية سلفية جهادية استطاعت نتيجة دعم وتمويل حكومات دولية وإقليمية، السيطرة على المشهد السوري طوال السنوات الأربع الماضية.

من المعلوم أن التوافق على صيغة سياسية تُخرج سوريا من أزمتها يحتاج إلى توافقات دولية وإقليمية وداخلية، وهذا يكتنفه صعوبات بالغة نتيجة تشابك وتداخل أطراف الصراع مع المشهد الإقليمي والدولي. ويستدعي من قوى المعارضة أن تفتح أبواب حوارات بينية لصياغة توافقات تمكّنها من دخول الحوار المزمع عقده كطرف منسجم. فاللحظة الراهنة تفترض تحديد المدخل إلى إقامة نظام سياسي ديموقراطي. وهذا يحتاج إلى وضع مقدمات أساسية يتوافق عليها السوريون، وبات واضحاً أن إنهاء الصراع وتشكيل حكومة إنقاذ وطنية تحظى بالشّرعية الشعبية، يشكّلان بوابة عبور إلى نظام جديد. ويقع على عاتق هذه الحكومة جملة من المسؤوليات؛ منها: الحفاظ على وحدة سوريا أرضاً وشعباً، التوصّل إلى إيقاف نهائي للقتال، وهذا يحتاج إلى دعم أممي يقرّ بضرورة تجفيف منابع الإرهاب الذي يشكّل المدخل إليه إيقاف دعم وتمويل المجموعات المتصارعة، وضع المقدمات الأولية لنظام سياسي ديموقراطي يُخرج السوريين من أزمة استطالت حتى تحولت إلى كارثة وطنية، وهذا يستوجب توافق القوى السياسية والمدنية على مقدمات حل سياسي شامل وعميق، والإشراف على إعادة صياغة الدستور والانتخابات البرلمانية ولاحقاً الرئاسية، ومحاكمة تجّار الأزمات وأمراء الحرب الذين جعلوا من حياة السوريين جحيماً لا يطاق، وإطلاق سراح السجناء السياسيين ومعتقلي الرأي، ووضع مقدمات نظام اقتصادي يحقق العدالة والتنمية البشرية…

لكن حتى هذا اللحظة، يبدو ذلك شبه مستحيل نتيجة التدخّلات الدولية والإقليمية وهيمنة الأطراف الإسلامية والجهادية على المشهد واستمرار دعمها من قبل حكومات ترى أن إسقاط النظام يشكّل المدخل إلى أي «حل سياسي». بهذا المستوى يتم توظيف بقاء الرئيس في السلطة لإطالة أمد الصراع وتدمير ما تبقّي من سوريا.

أخيراً، بات واضحاً أن غالبية السوريين يدركون أن مصالحهم ومستقبلهم تندرج في سياق لعبة دولية، وأنهم تحوّلوا إلى وقود للصراعات الدولية. وهذا يفرض عليهم أن يقبضوا على زمام تقرير مصيرهم، ويتوحدوا في مواجهة الأحادية السياسية ونهب الثروات الوطنية وسياسات الإفقار وضد المجموعات الجهادية التي تُعتبر إحدى أدوات المشروع الرأسمالي. فالدور الوظيفي لهذه المجموعات ينحصر في إغلاق آفاق التغيير الديموقراطي، وتدمير سوريا وتفتيت نسيجها الاجتماعي وإدخال السوريين في صراع مجهول المآلات.

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى