شرفاتكتاب الموقع

في نهر الخوابي رأيت طيف أمي !

ماذا يعني أن يستعيدَ الرجل مثلُنا طيفَ أمّه؟

أنا الطفل الذي تجاوز عمري ستين عاماً، أحتاج اليوم إلى أمي، وإذا كنتَ تحتاج إلى أمك، وأنت في هذا العمر، فهذا يعني أنك خائف، والخائفُ يحتاج إلى حضن ٍ يحميه من غدر الزمن، وياله من غدر!

مرة واحدة أحسست بالأمان في غياب أمي. كان ذلك على مقربة من نهر الخوابي، هذا النهر القريب من منطقة الشيخ بدر، يتدفق بعذوبة في منطقة جبلية ساحرة على بعد عشرين كيلو مترا من مدينة طرطوس.

كنت أقوم بتصوير فيلم وثائقي هناك مع شاعر جميل كريم هو علي هاشم الجندي، وهناك تعرفت على شقيقته أم مضر، التي فقدت ابنها بظروف صعبة، وعندما عرفت ذلك، وأنا أعرف مضراً، دنوت منها وقبلت يدها، فوجدتها قوية، متماسكة، تقف بجبروت في مواجهة الزمن الصعب. أمسكت يدي، وأدخلتني إلى البيت

وأشارت بيدها إلى صورته، وقالت :

ــ هذه صورة مضر، أتذكره؟!

كيف تقوى الأم على هذا الفقد، وتقف بهذه القوة فتحضن رفيق ابنها الراحل وتشجعه على الحياة النظيفة !

بكيتُ كطفل صغير، وكان الزمن قد رسم على وجهي قساوته، فزاد البكاء من تلك القساوة، وظل الحزن مسيطراً عليّ وأنا أقوم بعملي، وكنت أرقب حركاتها وهي تجلس معنا، وتقدم لنا مع زوجة أخيها الفاكهة، وتبتسم، وتحكي، وتتفرج!

كان بيت الشاعر علي الجندي جميلاً بناه في قلب غابة من الأشجار والأزهار والنباتات البرية، فمشيت فيه هارباً من نفسي، أوحي للآخرين بأنني أبحث عن لقطات جميلة للتصوير، فإذا بي أشاهدُ طيفَ أمي..

كانت أمي تشبه أم مضر، جميلة الوجه، طويلة القامة، غدر بها الزمن، ثم توفيت وهي تكابد وحيدة من مرض السرطان.. ابتسمت أمي، تماماً كما فعلت تلك المرأة الأم ، قالت :

ــ تبدو حزيناً ياولدي!

أرادت أن تخفف عني، فراحت تختبئ وراء الأشجار السامقة، ووراء الأجمات ، وتدعوني للحاق بها، وكنت كطفل صغير، أبحث عنها، وأتنقل من أجمة إلى أجمة، وأسمع ضحكاتها ..

لم تكن أمي تحب المزاح، كانت تحب الحكاية. حكت لي الكثير من القصص، وأنا طفل صغير، فلماذا تمازحني هذه المرة؟!

وقبل أن تختفي، همست بحنان :

ــ تعلم من أم مضر!

واختفت !

أنا اليوم بحاجة إلى أمي، وبحاجة إلى أم مضر لتحضنني بدلا من ابنها، لعلي أصبح قوياً، لأواجه الأيام الصعبة التي نعيشها. نعم ينبغي أن نكون أقوياء، ينبغي أن ننظر إلى وجوه أمهاتنا، ونعلن أن الزمن القادم أحلى، حتى لو لم نكن نصدق مانقول!

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى