قسطنطين كفافيس وفتنة الإسكندرية

 

قلت: “سأذهب إلى أرض ثانية وبحر آخر

إلى مدينة أخرى تكون أفضل من تلك المدينة

كل محاولاتى مقضي عليها بالفشل

وقلبي دفن كالميت

إلى متى سيكون فكري حزينا؟ أينما جلت بعيني،

أينما نظرت حولي بإمعان، رأيت خرائب سوداء من حياتي

حيث العديد من السنين قضيت وهدمت وبددت

لن تجد بلادا ولا بحورا أخرى فسوف تلاحقك المدينة

ستهيم في نفس الشوارع وستدركك الشيخوخة

في هذه الأحياء نفسها وفي البيوت ذاتها

سيدب الشيب إلى رأسك

وستصل دوما إلى هذه المدينة

لا تأمل في بقاع أخرى، ما من سفين من أجلك

وما من سبيل .. ما دمت قد خربت حياتك هنا

في هذا الركن الصغير .. فهي خراب أينما كنت في الوجود“.

بهذا المقطع من قصيدة كفافيس تتبدى العلاقة الآسرة الأزلية بين هذا الشاعر العاشق المحب ومدينته الأثيرة ، فهي عنده وعلاوة على تجربته التي وجدها عليها بعد وصول البرابرة عام 1882 وأصبحت المدينة أسيرة خربة نزقة، ومع ذلك فهو لها العين التي لا ترى سواها.

فالمدينة عنده أسطورة يونانية ضخمة تتولد من خلالها أخيلة وحكايات تستعيد الماضي بكل ما فيه من رموز ومعان وتاريخ، كما أنها أيضا في واقعها المعاش آنئذ ليست سوى أرض ثابتة تحت الأقدام تؤجج في نفسه مشاعر إنسانية متضاربة خاصة وهي ترزح تحت وطأة برابرة الأستعمار البريطاني في ذلك الوقت، فهي تهيم معه أينما حل وأينما وجد، تجرى دماؤها في شرايينه مانحة الحياة والأنفاس لنفسه وروحه، وهو لا يرى في قصيدته هذه إلا ظلمات وقتامة وخرائب كالذي يراها من حوله في كل مكان، فأعوام عمره التي قضاها في المدينة مخربة إلى أقصى مدى ومهما يحاول الإبحار إلى مدينة جديدة أفضل بدلا من تلك التي دفنت قلبه أثناء الحياة، فإن تلك المدينة ستظل تتعقبه وتطارده دوما، فهي تسكنه وتحاصره دائما، وهي أيضا قدره الذي لا يمكن الابتعاد عنه بأي حال من الأحوال، فالحياة التي خربها الشاعر في أحد أركان المدينة ستظل خرابا في كل البقاع.

وسنراه يؤكد أن مصير الناس في الإسكندرية مشابه لمصير أهل طرواده المحاصرة، هم يعيشونها سطوتها حتى الثمالة وهم مجبولون على البقاء فيها، حتى من يحاول الابتعاد عنها نراه يعود إليها مرة أخرى مسرعا في لهفة وشوق، هي دائما الملجأ والغواية والفتنة والحياة على الرغم مما ينتابها أحيانا من أعراض الخراب والموت. ولكن كفافيس علاوة على هذه الرؤية المتأججة في نفسه نحو الإسكندرية، نجده يعبر أيضا عن رغبة في الحب والحرية والمواطنة في مدينة أخرى تعيده إلى ماضيه وجذوره القديمة، وهي مدينة المثل العليا الأخرى البعيدة “ايثاكا” وهي الجزيرة البعيدة القريبة في نفس الوقت التي تقبع قبالة الساحل الغربي لليونان فهي بالنسبة له يجب أن تكون مطمحا يوميا، إنها الإحساس والرغبة والإشتهاء والمتعة الجمالية، إنها الموطن الأسطوري الذي طالما تغنى به لأدويسيوس، ولكن المدينة الإسكندرية دائما هي الفتاة التي يعشقها دوما والتي لن يتركها أبدا بعد أن عاد إليها عام 1885.

وهكذا تستقر المدينة في أعماق الشاعر رمزا للحياة والمصير الإنساني المطلق، وشيئا جوهريا في مسيرته حيث دماء المغامرة ما زالت تجرى متأججة بوجدانه وعقله، وتلك الحقيقة المطلقة هي قدره الذي ارتآه دائما وتاق إليه دوما، فهو موسوم بمدينته التي خرج منها بعد وصول البرابرة إليها، هي تعيش معه دائما وتتواصل مع أنفاسه، وتلاحقه أينما كان في هذا الوجود، وهنا نجد مستوى المكان والدلالة في مدينة كفافيس يحمل طبعة عصرية لما يعيشه هذا اليوناني العتيق، وهو رمز معنوي لما بداخله، فالمدينة تعيش داخله وليست خارج نطاق تفكيره، لذا نجد أن ناسها وشوارعها وأحياءها وبيوتها ولحظات تاريخها الحافل كانت هي الرمز الأم الذي ولّد منه كفافيس عديدا من الرموز والدلالات في عطائه الشعري شديد الثراء والخصوبة والشاعرية، فهى شمعته المضيئة دائما والتي لا يرى سواها ولا يرنو إلا إلى أيامها المتوهجة، لذا نراه في قصيدته “شموع” يحتفي بالرمز المجسد لهوى الأيام المنبعثة من الشموع المدينية المحترقة، يقول كفافيس في قصيدة “الشموع”:

أيام الغد تقف أمامنا

مثل صف من الشموع الصغيرة الموقدة

الشموع الصغيرة الذهبية، الحارة، والمتوهجة

الأيام المنصرمة تبقى وراءنا،

صف مفجع من الشموع المحترقة،

أقربها لا يزال يزفر الدخان

الشموع الباردة، ذائبة، ومحنّية

لا أريد أن أرنو إليها، إن جرمها يحزنني

كما يحزنني أن أتذكر ضوءها الأول

إننى أتطلع إلى شموعي المضاءة

لا أريد أن التفت إلى الوراء خشية أن أرى وأرتعد

كيف يستطيل الصف الكابي سريعا،

كيف تتضاعف الشموع المحترقة سريعا

فمن يغوى الإسكندرية وبفتن بها يكن له حجر فيها وظلال لا تنمحى وملامح تعيش طويلا، هكذا المدينة تحمل في كل شبر فيها عبق الماضى وظلال الحاضر وعبقرية التأثير وروعة الإبداع الذي يشع من كافة جوانبها، في حدائقها الخضراء الواسعة على شواطئ البحر، في بيوتها المتلاصقة والمتجاورة والمتحاورة، في حواريها وأزقتها وشوارعها صاحبة العبق الخاص والعبقرية التي تشع دائما إنسانية وتلقائية، في مقاهيها الشعبية بروادها ودخانها وعبقها الخاص، في أسواقها الزاخرة العامرة، في كل شبر من عبقرية جنباتها، هي مزيج من تراب عجيب يقال إنه زعفراني، ويود غريب يشع من البحر المتوسط معطرا ومضمخا برائحة الشرق والغرب معا، يعيش فيها أولاد البلد والأجانب من كل الأجناس، لها سحر خاص ربما هو نابع من موقعها المتميز على شاطئ البحر، ربما هو نابع من أسرار مخزونة داخل أعماقها، ربما هو عبق التاريخ الطويل الذي عاشته المدينة في هذا المكان المتميز من البحر، ربما أشياء كثيرة مجهولة تعطي هذه المدينة العريقة هذا الألق الخاص، المهم أن سحرها يجذب إليها كل من يقع عينه عليها. لذا فكل من يحل فيها يقع في آسر سحرها، هكذا هي “الإسكندرية”.

هي في كل زمان لها غواية خاصة وفتنة آسرة لكل البشر، تضمهم إلى صدرها، خاصة المبدعين الذين يجدون فيها شياطينهم حاضرة، تمتزج الذات مع المخيلة لتنتج في النهاية إبداعا يجول في جنبات النفس. جاءها فلوبير زائرا فوقع في غرامها وكتب عن رحلته إليها، جاءها الكاتب والشاعر الإنجليزى لورانس داريل فوقع في غرامها ومكث فيها سكندريا وعاش المواطنة السكندرية مخلصا، وكتب عنها رائعته السردية “رباعية الإسكندرية” وجسدها كحلم يغمره الضوء البرونزي الذي تلقيه البحيرة على ترابها، جاءها أ . م . فورستر فوقع في غرامها ولم يتركها إلا بعد أن ترك فيها كتابا مهما عن آثارها العظيمة، ودليلا رائعا يحدد ملامحها الخاصة وظلالها الآسرة، زارها نجيب محفوظ والحكيم وتيمور وغيرهم من كبار المبدعين فلم ينقطعوا عنها أبدا صيف شتاء وأثمرت زيارتهم عن أعمال إبداعية من وحى الإسكندرية، ولد فيها كثير من المبدعين وكانت هي ملهمتهم الوحيدة، أبدعوا فيها وعنها، حتى الذين ابتعدوا عنها لم ينسوها أبدا، إبدعوا عن الإسكندرية ما شاء لهم الإبداع، إلا أن عظمة المدينة لم تضن على أبنائها بأسرارها فأعطتهم كل ما يريدونه من السحر والفتنة والغواية حتى أصبحت الإسكندرية المكان والزمان ملهمة القصيد، وخميلة الحكماء والشعراء كما قال عنها أمير الشعراء أحمد شوقي.

من المبدعين الذين فتنوا بالإسكندرية وكانت المدينة غوايتهم وفتنتهم شاعر الإسكندرية الكبير قنسطنطين كفافيس، والذي أصبح بفضل فتنة وغواية الإسكندرية من أهم شعراء العالم قاطبة. ولد كفافيس في التاسع والعشرين من أبريل/نيسان عام 1863 ومات في نفس التاريخ من عام 1933 أي اختطفه الموت بعد سبعين عاما، أبدع فيها شعرا غنائيا ودراميا، وخلد اسمه في سجل عظماء الشعراء وكانت الإسكندرية هي عالمه الشعرى الأثير ومهبط إبداعه، وفاتنته الساحرة لذا فهو يقول عنها في قصيدته “البحر في الصباح”:

فلأقف هنا، ولأرى الطبيعة مليا

شاطئ بحر رائع، أزرق أصفر،

في صباح سماؤه صافية

كل شيء جميل مفعم بالضياء

فلأقف هنا، ولأخدع نفسي بأني أرى هذه حقا

ولا أرى خيالاتي ومتعة وهمية

في هذه المدينة فتح قنسطنطينوس . ب . كافافيس أو قسطنطين . ب . كافافي – كما يعرف اليوم – عينيه في منزل والده الكائن بشارع شريف باشا، حيث ولد في عالم رغد العيش لمكانة والده بيتر جون المرموقة بين كبار رجال صناعة القطن في الإسكندرية، وكان شخصيته في الحياة الدينية والتجارية في المدينة كبيرة، ولكنه كان أوروبيا في مظهره، كما لم يكن أصدقاؤه ومعارفه الذين كثيرا ما يغص بهم منزله من بني وطنه اليونانيين وحدهم، ولكن كان بينهم أيضا عدد من رجال الصناعة والأعمال الذين ينحدرون من قوميات مختلفة، ويشكلون الطبقة الأرستقراطية في الإسكندرية بوضعها المالي والإجتماعي المتميز. في هذه البيئة الرغدة العيش شب كفافيس عن الطوق حتى كان عام 1882 حين ضرب الإنجليز الإسكندرية، رحلت على أثرها الأسرة إلى الأستانة ثم عادت مرة أخرى بعد عدة أشهر إلا أن كفافيس وشقيقته خاريكليا لم يعودا إلا عام 1885، وكانت مصر التي عاد إليها كافافي، قد أصبحت آنذاك مستعمرة إنجليزية بالفعل، مما أدى إلى تدمير الحياة التجارية للجالية اليونانية فيها، بحيث أصبح من الصعوبة بالنسبة لليونانيين السكندريين أن يعيدوا بناء حياتهم ومراكزهم من جديد، في الوقت الذي خيمت فيه على البلاد مظاهر البؤس والتدهور العام، ويصف ستراتيس تسيركاس آخر من أرخوا لحياة كافافي، هذه المرحلة فيقول – كانت قد طمست المعالم المادية والمعنوية لمصر التي كانت تعرفها أسرة كافافي.

ولم يشارك كافافى قط، طوال حياته في أي نشاط سياسي ولكنه كان ليبراليا وإنسانيا في تفكيره، لذا فقد ولدت لديه هذه الظروف شعورا بالاكتئاب، وتعكس قصائده الأولى التي كتبها إبان هذه الفترة تشاؤمه المفرط. و قد استمر كفافيس طوال السنوات السبع التالية لعودته من الآستانة في تكريس وقته للدراسة والكتابة، وتوسع في قراءة التاريخ والأدب البيزنطي والهيليني، وقد أثار إعجابه وشهيته لهذا الإطلاع كتاب الأمثال الشعرية للبيزنطيين والسكندريين القدامى من أمثال سيمونيدس أو كيوس وكاليماخوس وميلياجيرو لوسيان، وقاده إهتمامه باللغة اليونانية الديموطية إلى الدراسات اللغوية التي كتبها بانيس بسيهاريس الذي سخر من اللغة الرفيعة ودعا إلى التبني المطلق للغة الديموطية باعتبارها الأمل الوحيد للأدب اليوناني والتطور الثقافي للشعب اليوناني.

كما قرأ كفافيس بنهم خلال هذه الفترة الأدب اللاتيني والفرنسي والإنجليزي، وفي قصيدته “في انتظار البرابرة” وهو نفس العنوان الذي استخدمه الروائي الجنوي أفريقي جون ماكسويل كويتزي الحائز على جائزة نوبل للآداب عام 2003 لروايته الذي حصل بها على الجائزة. في هذه القصيدة الرامزة إلى مزج الحضارة القديمة بواقع ما عاشه وعايشه كفافيس إبان وصول برابرة الإستعمار البريطاني وضربهم مدينته الإسكندرية والذي دمر فيه منزل عائلته الكائن بشارع شريف باشا، يقول كفافيس في هذه القصيدة:

 

التقاليد التي كان عليه تخطيها، والرؤية الشعرية التي كان عليه ان يدافع عنها كانتا أقل وأصغر بكثير مما ترتب على الشعراء الآخرين

 

ما الذي ننتظره، باجتماعنا في الساحة العامة؟

سيأتي البرابرة اليوم.

لم هذا الجمود في مجلس الشيوخ؟

لماذا يجلس الشيوخ بدون أن يصدروا قوانين؟

لأن البرابرة سيأتون اليوم.

أية قوانين أخرى يستطيع الشيوخ إصدارها؟

عندما يأتي البرابرة سيسّنون القوانين.

لماذا استيقظ أمبراطورنا في مثل هذه الساعة المبكرة.

ليجلس عند بوابة المدينة الرئيسية،

لأن البرابرة سيأتون اليوم.

والإمبراطور ينتظر لأستقبال رئيسهم، حقا، لقد استعد

ليقدم له قرطاسا حفر عليه

العديد من ألقاب وأسماء الشرف.

لماذا خرج حكامنا وقضاتنا اليوم

وقد اتزروا بشملاتهم الحمراء المطرزة،

لماذا يلبسون الأساور المرصعة بالأحجار الكريمة الزرقاء،

ويأتلقون باللآلئ البراقة اللامعة؟

لماذا يمسكون العصي الثمينة المطعمة بالفضة والذهب اليوم؟

لأن البرابرة سيأتون اليوم.

ومثل هذه الأشياء تخطف أبصار البرابرة.

لماذا لا يأتي الخطباء المفوّهون كما يحدث دائما لإلقاء خطبهم،

ليقولوا كلمتهم؟

لآن البرابرة سيأتون اليوم،

والبلاغة والخطابة، تصيبهم بالضجر،

لماذا هذا الاضطراب، والهرج المباغت؟

(يا لليل الذي كسا الوجوه)

لماذا تخلو الشوارع والساحات بهذه السرعة،

ويعود الجميع إلى بيوتهم، منغمسين في التفكير؟

لأن الليل قد حلّ هنا ولكن البرابرة لم يأتوا،

حضر بعض الناس من الحدود

وقالوا لم يعد هناك أثر للبرابرة،

والآن ما هو مصيرنا بدون أى برابرة؟

أولئك الناس كانوا نوعا من الحل.

بهذه القصيدة وغيرها من القصائد لم يعترف كفافيس في أعماله الشعرية الكاملة بحقيقة المواطنة العربية الخالصة، بل كان دائما يعايش عصورا قديمة، وأحلاما شائهة، وأوهام الماضي العتيق، فهو لا يزال يعيش في عصور هيلينية وهيلينيسية متصلة، ولا يتردد في سبيل إستكمال حلقات السلسلة أن يملأ الفراغ بالوهم الذي عاشه، وبالرغم من ذلك فقد ترك ثلاث قصائد شارك فيها مشاعر ووجدان الإنسان المصري، منها قصيدة ساذجة عن شم النسيم، وقصيدتان تنمان عن انفعاله بحدثين وطنيين راح ضحيتهما شابان مصريان، ولكن هذه القصائد تدخل ضمن إنتاجه الشعري المبكر الذي أوصى بعدم نشره.

يشكل قسطنطين كفافي علامة إبداعية ضخمة في تاريخ الشعر المعاصر، فهو يوناني عاش الإسكندرية، وسكندري كتب عن الماضي اليونانى بلغته، مارس الحياة بأفق شمل ثقافة الذات مع مخزون ثقافي كبير جال فيه ببصره وبصيرته الشاعرة ومزجها بواقعية قام باستعراضها بعين العالم، كما مزج ماضيه الحضاري مع حداثة الحاضر ودفعته ظروفه الخاصة إلى شبه الإنقطاع التام عن الحياة المعاصرة والإتصال بالماضي. فهو يرجع دائما إلى مدينته الموغلة في القدم، لأن لتاريخها عبقه الخاص ونبراته التي لم يكتسبها الحاضر بعد، لذا نجده يستحضر لنا من تاريخها اليوناني والهيليني القديم رموزا وشخوصها وأحداثا يستخلص منه مغزى الحياة الإنسانية بكل ما تحوى من أحداث درامية. كما أن مصداقيته الشعرية والمعبرة عن كنه الحياة وعما يدور فيها من ممارسات قد تصل إلى مناطق لا يصل إليها الآخرين، وهي التي أعطت كفافيس أبعادا ونظرات حققت من خلالها شعر هذا الرجل الذي كانت تجاربه الشخصية هي نوع من البوح والإعترافات الخاصة المفجرة لمنابع الصدق في إبداعاته الشعرية والذاتية.

وقد أثر كفافيس في شعراء عديدين منهم الشاعر الأميركي و . ه , أودن حيث يقول أودن: “منذ أن تعرفت لأول مرة على شعره بفضل الراحل ر . م . دوكينز منذ أكثر من 30 عاما خلت، ولا يزال ك . ب . كافافي يؤثر في كتاباتي، أو بقول آخر، أستطيع أن أذكر قصائدي التي لو لم أتعرف على كافافي لكنت كتبتها على نحو مغاير أو ربما لم أكتبها على الإطلاق، ومع ذلك فأنا لا أعرف كلمة واحدة من اللغة اليونانية الحديثة، مما جعل سبيلي الوحيد لقراءة شعر كافافي، من خلال ترجماته الإنجليزية والفرنسية.

كفافيس باستخدامه للماضي من أجل الحصول على مثل هذا الأثر إنما كان يشق طريقه نحو شيء أكثر مهارة وعمقا. فاهتمامه بالتاريخ كان اهتماما واسعا قاده إلى تعلم تلك الدروس بدقة بالغة مما جعله قادرا على تلمس العلائق بين العديد من تلك الأحداث الشهيرة والقضايا الإنسانية المتواترة. كان رد فعله الأول هو الخروج من الحادثة بما يمكن أن يكون. كما يبدو له الحقيقة الدائمة. ويقدمها بطريقته الخاصة فهو يرى في قصيدة “الطرواديون” قصة الطرواديين المحاصرين وكأنهم في الحالة النفسية التي يدرك الإنسان فيها حتمية هلاكه ولكنه يواصل الصراع بحيث يؤمن في لحظة ما أنه قادر على الانتصار.

وفي قصيدة “منتصف آذار” يلتقط قصة النبوءة التي تقولها العرافة لقيصر أن احذر منتصف آذار، ويجعل منها درسا مهما لكل الرجال الذين يتوصلون إلى ذروة السلطة. إن مثل هذه النبوءة، كما يقول، لها أهميتها البالغة ويجب أن لا يغفل عنها أحد مهما كان منصبه. وفي قصيدة “الله يخذل انطونيو” يقدم تصوره الشخصي للقصة التي رواها بلوتارخ ونقلها عنه شكسبير حول تخلى هرقل عن انطونيو. يعتقد كفافيس أن ذلك يمكن أن يحدث لأي إنسان غارق في السلطة والملذات. إنها ليست مناسبة للندم بل دعوة للشجاعة والإمتنان لذلك الماضي العظيم:

فلتصغ، تلك هي بهجتك الأخيرة، إلى الأصوات،

آلات الفرقة السرية المدهشة

وقل دائما، وداعا للإسكندرية التي أنت فاقدها

وفي قصيدة “إيثاكا” تصبح قصة غياب أوديسيوس الطويلة عن وطنه عظة لكل محاولات الاستقصاء الطويل حيث يخلص للقول إن البحث والاستقصاء أهم من الهدف نفسه، وما يترتب على ذلك من تجربة لا تضاهيها قيمة. تتسم هذه القصائد بلهجة الوعظ لذلك فهي جافة ورسمية. ومع ذلك فهى تمثل بداية إحساس كفافيس بأن موضوعات الماضي يمكن أن تنسحب على الحاضر وأن تنطبق عليه. مثل هذه القصائد أكثر حبكة وخصوصية.

وفي خضم هذا العمل استطاع كفافيس أن يبلور أسلوبا فنيا يناسب موهبته الخاصة أنتج به معظم أعماله المتميزة. ففي هذه الأعمال يقدم حدثا ماضيا بطريقة تبدو وكأنها موضوعية بحتة حيث لا يعلق عليها ولا يستخلص منها أي مغزى أخلاقي. إنه يبدو وكأنه معني كليا بالحالة ذاتها فقط. وهو فعلا كذلك رغم أنه من الطبيعي أن تتم هذه المعالجة بذوق ذاتي شديد. ففي قصيدة “الخطوة الأولى” يروى كيف يقوم الشاعر ثيوقريطى بتوبيخ الشاعر الشاب أيمنيس لتخاذله عن بلوغ العظمة حيث يخبره بأن مجرد اتجاهه نحو الشعر هو إنجاز بحد ذاته . لا بد أن تعكس هذه القصيدة آراء كفافيس الخاصة التي لا يشكل زيها القديم شيئا أساسيا بالنسبة لها. ولكنه في قصيدة “وقع الخطى” كان أكثر إتقانا حيث تصور القصيدة قلق الألهة التي تحرس نيرون بسبب سماعها أصواتا مرعبة عن السلام فتقع فوق بعضها البعض:

إنها تفهم معنى ذلك الصوت

وتعرف الآن وقع خطى المنتقمين

تبدو الحالة هنا شيئا مستقلا وتظل اللمسة الذاتية تحت السيطرة، فالمقصود هنا هو تلك اللحظة من حياة نيرون حيث يأخذ القدر المحتوم بالتصدى له.

لا تقل قصيدة “الملك ديميتريوس” القصيرة موضوعية ونجاحا، فالملك ديميتريوس بعد أن خذله المكدونيون، ينزع أروابه ويلبس ملابس بسيطة ويهرب:

شأنه شأن أي ممثل

فحين تنتهى المسرحية

يغير ملابسه ثم يرحل

يتم تقديم هذه الأحداث الشعرية بحس تاريخي ودرامي فائقين، ولكنها تستمد قوتها الخاصة من الحقيقة الواقعة وهي أن هذه الأحداث دائمة التكرار وأن مثلا واحدا منها يستدعى للذهن سلسلة من الأحداث المشابهة. هكذا بدأ كفافيس باستخدام الماضي كوسيلة لتحليل الحاضر وطرائق البشر الواقعية التي لا تتغير. بهذه الطريقة سرعان ما اكتسب هذه الفن العمق والتعقيد والتميز. ففي قصيدة “في انتظار البرابرة” التي سبق أن تحدثنا عنها والتي كتبها كفافيس عام 1911 يعرض أسطورة فعلية تشكل بحد ذاتها قصة متكاملة تحكي عن مدلول وتأويل الحاجة إلى البرابرة حتى تتعادل وتتوازن المعادلة الصعبة للحياة لذلك فهي غنية بمدلولاتها الكونية ونهايتها تحتفي برؤية كفافيس نحو ماضيه الهلينيي واليوناني القديم.

والقصيدة يبدأ مشهدها في فترة زمنية هي نهاية العالم القديم في مدينة تنتظر هجوم البرابرة وبدلا من أن يسيطر الخوف على السكان، ينهمكون بالتهيوء لاستقبال المحتلين. المجلس الأعلى لم ينعقد حيث لا حاجة لسن القوانين، فالبرابرة القادمون سوف يسنونها، يجلس الأمبراطور على عرشه عند بوابة المدينة لابسا تاجه منتظرا قائد البرابرة لكي يرحب به ترحيبا لائقا، وقد لبس الموظفون أحسن ملابسهم.

في هذه القصيدة الرامزة يتعرض كفافيس لموضوع له شعبية واسعة في زمانه، فالكاتب الروسي فاليرى بريوسوف كتب قصيدة بعنوان “الهون القادمون” رحب فيه بتدفق المحتلين البرابرة على عالم متعب يحتاج لدم جديد وحياة جديدة. وبروحية مشابهة. كتب ستيفان جورج “إحراق الهيكل” صور فيها بطريقة مسرحية ذلك الإعجاب الكبير الذي يحمله الناس للمحتل المتجبر الذي يدمر أقدس مقدساتهم. تتحدث القصيدتان بلغة الماضي ولكنها تعكسان هموم وآمال العصر، وهو ما أحسه كل من بريوسوف وجورج وكفافيس بأن العصر مريض ولا يمكن شفاوءه إلا بكارثة كبيرة تلتهم حضارة القرون الأولى، وهو ما تأثر به كفافيس وانعكس على شعره خاصة قصيدته “في انتظار البرابرة”.

وإذا كانت اللغة عند كفافيس تحتفي بكل تواضع في صلب موضوعاتها باهتمام المثقف والملم بدقائقها. فمع أن كفافيس كتب بطريقته اللغوية الخاصة إلا أنه لم يجشم نفسه عناء الإستفاده من الإمكانيات المتنوعة التي توفرها اللغة اليونانية الحديثة للكتّاب. وإذا ما اعتبره انصار الأسلوب القديم المتجردين من كل زينة بأنه يتمادى في تبسيط لغته فإن أنصار اللغة الشعبية يعتقدون بأنه قد أهان اللغة الحية بقلة استخدامه لمفرداتها الوفيرة.

هكذا يقف كفافيس موقفا خطرا بين خطين متطرفين فى تناقضهما، وقد أساء ذلك إلى سمعته بعض الشيء في اليونان، ومع ذلك فقد استطاع بطريقته الخاصة أن يوجه مناوراته بمهارة عبر ذلك الخط المتعرج للغة اليونانية. فهو يلجأ أحيانا إلى تقديم مفردة شعبية خالصة من أجل خلق تأثير معين كما في قصيدة “في انتظار البرابرة ” إذ يشير إلى “العصا” بتعبير يتردد عادة في السوق والشارع ويطلب “نوعا من الحل” أو كما يقول في قصيدة “ملوك سكندريون” بأن السكندريين قد عرفوا بالطبع قيمة الشيء. وبلغة الحديث اليومي، يقدم أحيانا ضمن فواصل صغيرة بعض التعابير التي تفوح منها رائحة البلاغة الكلاسيكية أو لغة الكنيسة البيزنطية واليونانية. يقوم هذا التنويع في اللغة بدور يتعدى حدود النبرة المتوخاة من أجل مناسبة معينة بواسطة كلمات تتناسب مع الزمن والمكان، إنه يؤكد على التنويعات المختلفة في أحساسيس كفافيس نفسه ونظراته الخاصة نحو الموضوع المطروح. وهو يوفر ذلك التجاذب بين الارتفاع والهبوط الذي يمنح الحالة النفسية خصبها ويتيح المجال لردود فعل مختلفة في لحظة ما.

وإذا كانت إحدى المشاكل الرئيسية التي واجهت الشعر الحديث هي كيفية الربط بين الأثارية الشعرية الخالصة ومدى إنعكاس جوهر الشعر على صيغة الواقع والإحساس الكامل بتعقيد الوعي الحديث، فلا شك أن كافافي الذي بدأ العمل قبل نضوج هذه المشكلة في كثير من أجزاء أوروبا، قد وجد الحل الناجح لها. لاشك أن الأثارية التي وجدت في شعر كافافى ليست تلك الأثارية الديناميكية التي عند ابولينير أو لوركا، كما لا يصل تعقيده إلى مصاف باسترناك أو اليوت وبورخيس واكتافيو باث، لقد كانت مهمته الشعرية المستوحاة من مزج الحديث بالقديم، أسهل في بعض وجوهها من تلك المهمات التي واجهت الشعراء الذين وجدوا أنفسهم في خضم الموروث الأوروبي الراسخ. فالتقاليد التي كان عليه تخطيها، والرؤية الشعرية التي كان عليه ان يدافع عنها كانتا أقل وأصغر بكثير مما ترتب على الشعراء الآخرين. وهو لم يتوغل في سبيل استكشاف حالات شبه الوعى التي وجد الشعراء الآخرون فيها مجالات خصبة لتجاربهم وآرائهم إنما هو قد أدرك حدوده وأتقن فنه ضمن هذه الحدود. وهو بمعالجته مادته بأسلوب درامي قد استطاع أن يسبر أغوار الكثير من الزوايا الغريبة في النفس البشرية. فهو لم يكن معنيا بأهواء الطبيعة البشرية بقدر ما كان مهتما بأسرارها وبالجماليات التي وضعها في شعره وحمّله موروث الإسكندرية واليونانية الهيلينية القديمة.

المراجع

  • كافافي شاعر الإسكندرية، إعداد وتقديم أحمد مرسي، منشورات الخزندار، جدة، 1992.
  • كونستانتين كافافى (قصائد)، ترجمها عن الفرنسية بشير السباعي، دار إلياس العصرية للطباعة والنشر، القاهرة، 1991.
  • قسطنطين كافافي والماضي الأغريقي، التجربة الخلاقة، س . م . بورا، ترجمة سلافة حجاوى، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1986.
  • (ملف خاص) عن الإسكندرية، مقالات عن المشهد السكندري في عيون أوروبية “إبراهيم فتحي”.
  • الإسكندرية في شعر كافافي. د. نعيم عطية، جريدة القاهرة، القاهرة، ع 131، 15/10/2002.

ميدل إيست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى