كتب

قصص قصيرة جدا تجتمع في ‘بئر برهوت’

تجنيس النص يعتبر عتبة مهمة للولوج إلى المتن، انطلاقا من التسمية كصنف من أصناف أو صيغة من صيغ القص، يأتي السؤال من الذي يمنح الهوية او النوع أهو الكاتب، المتلقي أم السمات المميزة للنوع؟

اذن نحن أمام وجود ينحى إلى اعتبار(الأعراف والمواضعات هي التي تحدد هذا الجنس .لكن يبقى هذا الجدل قائماً في أصل القصة وشكل ونوع هذا القص، بين من يراه نوعا سرديا متطورا عن القصة القصيرة لما تتوفر عليه من سرد  حكاية وأحداث وشخصيات ولحظة الاكتشاف والمفاجأة والخاتمة، وبين من يعتبره متطورة عن قصيدة النثر، لما تشتمل عليه من لغة شعرية، وهيمنة غنائية، واستعمال لغة مرسلة توظف أدوات الشعر من مجاز وانزياح وصورة فنية… ومن يرجعه إلى الشعر الحر لاعتماده نظام الأسطر والمقاطع، وحسن توظيف البياض مع الإفراط في توظيف البديع التوريات، الطباق والجناس والاعتناء بالجانب الصوتي… لكن يبدو هذا النقاش غير مجدي ما دام هذا النوع قد اختار تصنفه بالانحياز إلى القصة القصيرة واكتفى بإضافة “جدا” ليميز نفسه.

(المجموعة بوصفها ادانةً وجُرحاً..)

موظف الجمارك “اوسكار وايلد” في واحدة من رحلاته .ان كان يحمل امتعة ثمينة .لم يتردد في ان يجيب “عبقريتي”

المجموعة القصصية الموسومة جدا “بئر برهوت” للقاص جابر محمد جابر، حيث تنطوي “العتبات” العنونة على بنية مركبة، مليئةً بالإشارات والرسائل الملغزة، ولا تخلو من مسحة صوفية تتراوح بين قساوة الحكي وشفافية البوح.

رؤية انسانية بالغة الحزن

مسكينة تلك الحمامة .ترى من اصاب جناحها وعطلها عن الطيران، من كسر قلبها لتصبح هكذا…عرجاء ..!!! انا حزين لحزنها، اه لو تسمح لي ان اعالج وجعها واداري روحها الا انها فقدت الثقة بالانسانية….كل ما أصابها مصدره الانسان …الإنسان الوضيع للاسف الشديد ص54.

يؤكد الكاتب على أن التحولات في بنية القص كونها الهاجس المحرك لفكرة المجموعة القصصية ومخططها منذ بداية التوجه لكتابتها، اذن هي نصوص امتلكت رؤية إنسانية بالغة الحزن مادتها “الانسان”، تتنوع بين اﻹطار الفانتازي واﻷسطوري والواقعي والفلسفي والملحمي مع كثير من الإنسانيات والتشريح المستفيض للنفس البشرية بكل صراعاتها الداخلية ولحظات تمردها بل ونجاحاتها التي تختلط أحيانا بالإحباطات والكثير من الحيرة والمبطنة بعُقد الخوف والنقص فيه، هذه النصوص تميزت بسلاستها المعهودة من حيث اللغة، كأنها مونولوجات قصيرة تثير الدهشة في نفس القارئ.

نصوص تكتشف الوجه المتمرد للكاتب

“انا رجل بعيد عن الشبهات .تتهمني هي بالتفريط بجمالها او عنوستها او مفاتنها ..انا لم احافظ على نزاهتي في رسم خطواتها هي تقول ذلك” ص68.

” بئر برهوت.. في صحراء محافظة المهرة، في شرق اليمن، ويعتقد الناس أنها مسكونة من الجن… يسميها اليمنيون “قعر جهنم”

النصوص وعبر هذا القالب الفني الذي اختاره كاتبها، نكتشف الوجه المتمرد له .تبدو كهاجس ذهني اخترعه خياله، ومارس لعبة الكتابة طقوس “احتجاجية”.

ثيمة النصوص لا تزل قادرة على المنح والحرية ونشدان العدل بالرغم من التهكم والانتقاد والسخرية، مشغولة بحسّ إنساني خاص، متكئة على تنوع في صيغ الحكي المكثف، تتآزر وتتكامل كي تشكل لافتات ادانة.

خصوصية جمالية

مضت الدقائق بطيئة كسلحفاة ثم فجأة لاذت بأشجار الحزن لتحوّل جسدي إلى كتلة من الجمر المتقد ( ….) لمحتُ عصافير الزمن تكركر لوحدها، قلت في سري هذه تدعو للتفاؤل قادماً سيراً على الأقدام، أو بعربة بلا عجلات، المهم أن يزورنا! ” قصة ” عصافير الزمن ص11.

النصوص القصيرة هنا لها خصوصية جمالية تؤسس لذائقة جديدة، تعصف بالأدوات والمعايير النقدية الراسية و المتداولة عن محاكمة النص وفقا لأعراف أجناسية ثابتة وضوابط نهائية، طالما أن النص استطاع أن يحقق الغاية المرجوة منه: أن يحفر في عمق الدهشة، كاسرا أفق انتظار القارئ .

قال لا تخشى الذئاب ثم استدرك وقبل ان اسأل كيف؟

قال: عليك ان تحترس وانت تسير في طريق الذئاب .اقتنعت بكلامه وضاقت …ذئبة ص75.

تنوّع أساليب القص وطرق السرد

صحيح ان الكاتب تعمد في مجموعته ان يبدأ التمييز بين نص وأخر، مادام كل نص اختلف شيئاً ما عن غيره، فنياً، شعورياً، قصصياً، جمالياً.. إلخ، فاللفظة عنده مشتركة في أغلب النصوص ودالة بمبناها على معناها، كما حافظ الكاتب وبقصدية واعية على هويتها اللهجية ضمن السياق اللساني المؤطر للدلالة في المفهوم الجمعي فضلا عن عفويتها وحكائيتها المستجيبة لمتطلبات السرد، كما تنوّعت أساليب القص وطرائق السرد بكثير من التجريب الواعي، مع الالتزام الدائم بالبناء الفني لمعمار النص.

لكن كل نص هو من حيث المبدأ عمل مرتبط بشعورنا العميق بالخذلان والإدانة لما يجري، وبالتالي استمرار السؤال المحرّض، أو غير ذلك مما نعتبره شعوراً بالنقص متأصلاً في الكاتب/القارئ معا.

سرعان ما أن يكتشف الكاتب بحدسه العميق وخبرته التلقائية وذكائه الفنّي وصدقه الشعوري هذه الأواصر، فيوغل في قدح نصوصه في قلب ومشاعر المتلقي فيجعله يتفاعل معه ويساهم في كتابتها من خلال “فراغات” تركها في جل النصوص تتفاوت في الطول والقصر بحسب الغرض.

تفاعل المتلقي

من وراء شرفة الأمنيات، أطلت فتاة في غاية الموت، ترتشف كأس السعال، تصرخ بأنفها.. لا للحياة البائسة، لا لأحلام الفقراء، نعم للقدر الفعال (…) هيا نذهب نحطم صناديق الخوف، نسترجع ثمن الوطن قبل أن يهرب اللصوص…” ص 47

تحملنا شعرية القص ومفاجآتها اللغوية والجمالية المستمرة على البقاء متأهبين لقبول كل فكرة جديدة تتعلق بقراءة النص وتوصيفه وانفتاحه على الإمكانات المتعددة لتوليد نصوص تومض ولا تفضح. تجعل من القارئ جزءاً لا يتجزأ من عالمها الخاص ..

ما دونه الكاتب نجده يؤرخ لمفهوم العقل الجمعي المتحول على طريقته الخاصة من خلال رصد مصائر انسانية يغلفها الحزن والانكسار والخذلان.. وكأنها دفاتر يومية استمدّت مفرداتها من اليومي، تسرد تفاصيل الهامش من كوابيس لا حدود لها. ويتم تحويلها الى لافتات سياسية تدين كل سلطة غاشمة من البيت والمجتمع والنظام..

النصوص يغلب عليها التقشف، إلا أنها تمتلك جماليّة بصرية خاصة..

إدانة صارخة للقمع والقهر

لم اعد اشعر بشيء،عدت من المقبرة منهكا استنزفت كل دموعي، فقدت الوعي، رقدت في المستشفى يومان او اكثر .لم تعد لدي رغبة في الكلام او حتى الكتابة شعرت ان القدر طعني من الخلف يوم اخذ اختي التي احب ام عمار ص.77

مع ذلك الكاتب يلخص ويختصر تجارب إنسانية عميقة ومحفوفة بالألم حصلت بعد التحول السياسي والاجتماعي للبلد وما يتبعها بالضرورة من اغتراب نفسي ووجودي للمثقف وتخلخل على مستوى فنية الكتابة .

تحولات فاشلة ومحبطة تركت آثارها الخطيرة وأفرزت ظواهرها التي تتصدرها ظاهرة تنامي الفقر والقتل على الهوية وغياب الرؤيا ….الخ، وهذا ما صبغ النصوص ببعض تجليات هذه المظاهر الني عاصرها الكاتب كمراقب اولا ومشارك ثانيا واخترقت وعيه بحدة كونهُ أيضاً ضحية من ضحايا هذه الأوضاع القاسية والمؤلمة.في إدانة صارخة للقمع والقهر. هي أشد بُعداً عن لغة التباكي ..

اذن هذه النصوص القصيرة هي أصوات استغاثة أكثر من كونها أصوات سرد دؤوب لقصص الحياة.

 

 

ميدل إيست أون لاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى