كتب

المزاج الأدبي كافكا من الحب إلى الموت

 

قد يختلفُ المزاج الأدبي من جيل إلى آخر، ومن يكونُ مثالاً في عصر معينٍ ربما يخلفُ في موقعهُ اسم جديد في المراحل اللاحقة. لكن هذه الفرضيةُ لا تنسحبُ على بعض المبدعين الذين تتمُ استعادةُ إرثهم الأدبي على مر الزمن. طبعاً يأتي الروائي التشيكي فرانتس كافكا ضمن الأدباء الذين لا يتقيدُ حضورهم بموجات محددة، ويكمنُ السرُ وراء ذلك الأمر في التَميزُ الإبداعي والتفوق الأسلوبي في تناول ما يزيدُ من حدة الوعي بشأن الظواهر التي تتجاهُلها العقليات المرابطة في السطح. فإنَّ كافكا هو الكاتب الوحيد الضروري في القرن العشرين حسب رأي الروائي المكسيكي كارلوس فوينتس لأن هذا العصر والكلام لقائله لا يفسرُ من دون صاحب “التحوّل“.

ومن المعلوم أنَّ ما يحدو بنا للعودة إلى كافكا باستمرار ليس أدبه فحسب، بل تجاربه الحياتية أيضاً تثير الغرابة، فبالتالي من الطبيعي أن يبادر عدد من كتاب السيرة باستقصاء محطات حياته، أو يتمُ سردَ ما عاشهُ مؤلفُ “المحاكمة” في إطار النصوص الروائية، بمعنى أن تتحولَ سيرة كافكا الشخصية إلى مادة مروية، كما أنجزتَ ذلك الكاتبة الفرنسية “جاكلين راوول دوفال” في عملها المعنون بـ”كافكا الخاطب الأبدي”. إذ ترصدُ الكاتبة حيثيات حياة كافكا بأبعادها المختلفة مشيرةً إلى صداقاته وخصوصية العلاقة بينه وبين أخته أوتلا التي عاش في ضيافتها بتساوراو أجمل أيامه مستمتعاً بالهواء النقي والمشاهد الطبيعية الواعدة بالراحة النفسية. اعترف قائلاً لأخته “لم أشعر بنفسي قط أفضل حالا من اللحظات التي أقضيها وحيداً معك”. ”

يكتبُ رسالةً لخطيبته فيليس مخبراً إياها إصابته بالسلّ بنبرة ممازحة “قال الدماغ: لا يمكنُ للأمر أن يستمرَ على هذا النحو فصرحت رئتان بأنهما على إستعداد للتدخل” تطيبُ حياة الفلاحين لكافكا، ويراهم بعيدين عن الزيغ منظمين عملهم بقدر كبير من التواضع والحكمة.

غراميات متفردة

ما يعيدُ كافكا إلى مسرح الأدب إضافة إلى فرادة أسلوبه في كتابة الرواية هو غرابة شخصيته التي تمتازُ بمواصفات مثيرة للجدل. لذلك يبدأُ الراوي المراقب بمتابعة كافكا وهو يمشي في شوارع براغ لافتاً إلى تاريخ اليوم والأغنية التي يرددها الشابُ مع نفسه منذ مدة. ومن ثَّم يتنقلُ المتكلم إلى موقع الراوي كلي العلم موضحاً أنَّ الشخصَ الذي يقعُ في دائرة اهتمام المُتلقي يحثُ الخطى نحو منزل صديقه ماكس برود، ما يعني أنَّ السردَ ينطلقُ من الصميم، وذلك مطلوب من الرواية السيرية.

تلمحُ الكاتبة إلى بدايات الصداقة بين ماكس وكافكا، فكان الأخيرُ قد تدخل في نقاش بشأنِ شوبنهاور عقب تقديم ماكس عرضاَ عن فيلسوف التشاؤم. وصف فيه نيتشه بأنَّه دجال فما من كافكا إلا وخالف هذا الرأي. حينذاك لفت انتباه الحضور وبدا بشكله وهندامه شخصية وافدة من روايات دوستويفسكي. وهذا الموقف يكونُ بداية للتواصل بين الاثنين والإهتمام المشترك بالكتب والأفلام يؤسسُ لصداقة العمر بينهما.

قبل التحول إلى لحظة اللقاء بين كافكا وفيليس تتواردُ الإشارات إلى نمط حياة كافكا وحساسيته مع النص، فبرأيه يجبُ سحب الكلمات من العدم. ويمضي السردُ إلى أن ينفتحَ على الحوار بين كافكا والفتاة القادمة من برلين، لا يكتفي بالأسئلة بل يعرضُ أمام ضيفة أل برود الصور التي التقطها برفقة ماكس يمتد الحديثُ بين الثلاثة إلى الكتابة، وجذور كافكا وعلاقته باللغة العبرية ورغبته للسفر إلى فلسطين، وعندما يسألُ ماكس صديقه عن انطباعه بشأن ضيفته يرد قائلاً بأنها تفتقر إلى الجاذبية والسحر.

بعدما تعودُ فيليس إلى برلين يباشرُ كافكا بمراسلتها. فيما تتأخرُ فيليس في الرد عليه إلى أنْ تكتبَ له أخيراً إذ يعبرُ كافكا عن أثر كلماتها المرسلة على نفسيته “حين تصلنى رسائلك أرتعد كمجنون، وجيف يهزُ جسدي بأكمله، وقلبي لا يعرف سواك”. ويبوحُ كافكا بحاجته إلى التواصل مع فيليس مؤكداً بأنَّه لن يتغير “حاجتي إلى تراسل متواصل معك لا ينبعُ من الحب إنما من مزاجي التعيس”. أكثر من ذلك يطالبُ كافكا بمزيد من صور فيليس، فبنظره أن وجهاً لا يمكنُ إدراكه إلا عبر ألف صورة. يتم تتويجُ هذه العلاقة القائمة على التراسل بالخطوبة، لكن الغريب في الأمر أن طلبَ كافكا بالزواج من فيليس يكونُ مصحوباً بالقلق والخوف من المستقبل “أعجل بالقول إنّي أخاف خوفاً أخرق من مستقبلنا ومن الشقاء الذي قد يأتي من حياتنا المشتركة”.

يواصل كافكا الكتابة على هذا النمط محذراً خطيبته بقتامة الحياة برفقته كما يريدُ التأكد في الوقت نفسه من حقيقة مشاعر فيليس. تفسخُ الخطوبة بعدما ترفعُ السريةُ عما قاله كافكا عن علاقته بفيليس في رسائل متبادلة مع غريت معلناً بأنَّ كل ما فيه يتمردُ ضد هذا الإرتباط، وحين تتمُ محاكمة كافكا إذ تؤنبه خطيبته على تصرفاته وتلصص أهله على وضعية أهلها المالية، يستدعي شحصية مومس في ذهنه وكلامها عن تصرفها مع الزبائن.

هنا لا يصحُ تجاهل تقلبات كافكا بين الرغبة في التواصل مع تلك المرأة والنفور منها، وما إن تبدي له مزيدا من الحب حتى يهرب. وم اتقولهُ فيليس تعليقاً على إشكالية خطيبها يوحي بأنها لم تعدْ تتحمل لعب دور الضحية والجلاد في آن واحد، مذكرةً كافكا بما أسرَّ إليها ذات مرة بأنه يريد أن يُعذِّبَ ويعذِبَ. على هذا النحو تتأرجح العلاقة بين كافكا وفيليس ولا يكون فسخ الخطوبة نهاية لهذه القصة بل يستأنفُ التواصل بينهما من جديد، وكان من المفترض إتمام الزواج بعد الحرب لكن ينتهي فصل فيليس من حياة كافكا عام 1917.

غراميات بلا غد

لا يتحملُ كافكا حالة اللاحب. بعد فسخ خطوبته مع فيليس يعيشُ تجربةً أخرى مع يولي وأعرب عن رغبته للإرتباط بها غير أنَّ أهله رفضوا اختيار الابن. قبل ذلك أمضى الدكتور كافكا أياما مرحة برفقة الصبية غرتي كان يقرأُ لها قصص بوشكين ونجاحه الأدبي وموته جراء المبارزة لا يوازي هذه التجربة الفاتنة سوى ما عاشه كافكا لصيف واحد مع سلمى عندما كان في السابعة عشرة من عمره.

ولا تتجاهلُ الكاتبةُ الإلتفات إلى صراع كافكا مع والده والملل القاهر الذي جعله يتمنى وجوده في الحرب، هذا ناهيك عن محاولاته لتعلم العبرية، لكن كل ذلك ليس شيئاً قياساً بما يتواردُ عن حياته العاطفية، إذ يعترفُ بأنَّ تجربته الأولى في العلاقة الجسدية خلفت لديه الخوف من الجنس.

وتتناولُ جاكلين راوول علاقة كافكا بميلينا التي وصفها بنار حية وهام بها حباً مع أن ميلينا كانت متزوجة، وكان اللقاء الأول بين الاثنين في مقهى راكو في براغ حيثُ بادرت ميلينا بمحادثة كافكا لافتة إلى ما رغبتها في ترجمة أعماله إلى اللغة التشيكية. ولا يسعُ القاريء إلا أن يقارن بين ميلينا وفيليس، فالأولى كانت متمردة خالفت القيم الأسرية حين إرتبطت بأرنست بولاك، وبالطبع هذا الموقف يكلفها كثيراً من المعاناة والحياة البائسة، والأهم من ذلك إدراكها لشخصية كافكا المتراوح بين الحب واللاحب، فيما مضى كثير من الوقت بالنسبة لفيليس قبل أن تفهم مزاج خطيبها.

أخيراً يلتقي كافكا بدورا البولندية، وهي هربت من والديها ثائرة على قوانين الحسديم التي تقيد حياة المرأة حيثُ يحلُ عليه الشعور بالإرتياح بصحبة هذه الشابة لاسيما هو يعيشُ بعيداً عن أبويه “إنَّ مسقط الرأس دوما ما يكونُ مكاناً غير مضياف، إنَّه فضاء للذكريات، للحنين المرضي، للصغائر، والمهانة”. ترافقه دورا في رحلته الأخيرة بالمستشفى هناك تتدهور حالة كافكاً الصحية يوماً تلو الآخر، ولا شيءَ يخففُ آلامه المبرحة في الحنجرة سوى المورفين إلى أن يطالبَ صاحب “القلعة” من صديقه بموت رحيم، وما من روبرت كلوبستوك إلا أن يلبي رغبة كافكا بزيادة من جرعات مورفين حسب رواية جاكلين راوول دوفال.

تذيل الكاتبةُ منجزها الروائي بمعلومات عن مصير أفراد عائلة كافكا وأصدقائه وتجربتها في هذه المروية السيرية عن ابن براغ. يذكرُ أنَّ جلَّ ما يضمهُ هذا العمل الروائي يطابقُ المعلومات المتوفرة عن حياة كافكا بدءاً من شغفه بالكتابة مروراً بظروفه الأسرية وصولاً إلى تعثرات علاقته مع فيليس وشدة إعجابه بميلينا ومطالبته بحرق أثره الأدبي “إن رؤية اللهب يلتهمُ مخطوطاتي يريحني. كلما أحرقت منها تخلصت من شياطينى” على أية الحال فإنَّ كافكا يمثلُ أفقاً يصعبُ تجاوزه في الأدب كذلك قد تلهم حياته الصاخبة من الداخل بكتابة مزيد عن منعطفاتها العاطفية، وإذا كان الحب من أكثر الإحتمالات غموضاً يتحول لدى فرانتس كافكا إلى أحجية غامضة فهو لا يتحمل الحرمان من الحب ويتوجسُ قلقاً من عنفه.

ميدل إيست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى