“كبرياء الموج” رواية البوح الشفيف وحوار الذات

 

ذلك الراقص بداخل تنورة تجنح به مادًّا ذراعيه في نشوة لا تنتهي، يدور أمامًا وخلفه أفق امتزج ضوء النهار بظلمة الليل ليفصل بينهما شفق سادر. تلك هي لوحة غلاف يستدرج قارئا محتملا، يدفعه لأن يتخيل من خلال ذلك الغلاف ما تحتويه رواية “كبرياء الموج” من وجد. الرواية للأديبة انتصار عبدالمنعم. والصادرة عن دار الهلال في القاهرة. والكاتبة لها ما يقرب من العشرة إصدارات توزعت بين أدب الطفل.. والقصة القصيرة والرواية.

كبرياء الموج” جمعت بين أسلوب السيرة والذكريات وإيقاع الرواية من أحداث لاهثة، كما طغت لغة صوفية رقيقة على مجمل خطابها، حتى نهايتها. بالمقابل نجد طغيان حضور الأولياء من خلال أضرحتهم ومقولاتهم ومواكب زيارتهم السنوية، موازيا لتلك اللغة. وفوق ذلك أبرزت الكاتبة المدينة بأكثر من وجه، كمدينة موغلة في القدم، وبما يحمله سكانها من موروث حضاري تراكم عبر قرون عديدة. نجد الرواية اهتمت بتعدد تلك الوجوه.

هنا تبرز لنا الساردة كشخصية مؤمنة بتلك الأضرحة بل ومؤثرة تأثيرا طاغيا على حياتها وسلوكها لتتماهى مع مدينتها فلا يعد يميز المتلقي الحد الفاصل بين الساردة والمدينة.

وإذا عدنا إلى المحور الرئيسي للرواية، فإنه الفقد، إلا أن عدة تيمات قد عالجتها، فوق معالجتها لمحورها الرئيس. فقد الحبيب والتي استمرت أسطر الرواية تحمل ذلك الحنين واللوعة إلى لقياه. تارة بالذكرى وتارة باستحضاره وسرد ما كان منه، ليظن القارئ أن ذلك الحبيب الغائب كان له معها حياة من العشق، حتى نكتشف مع اقترابنا من النهايات إن من ظلت تصيغ له تلك المشاعر بتلك اللوعة إنما هو خالها أو جدها حسن، حين تضع الكاتبة قارئها في التباس شخصياتها!

هذه الرواية بتعدد أوجهها وما حفلت به من تناول ثري حول مدينة ثرية بتاريخها كالإسكندرية، لا يمكن الإلمام بها في بضعة أسطر، إذ أنها تستحق المزيد من القراءات والتناولات هنا تتكاثر الأسئلة دون أن نجد لها إجابة. بعد أن وضعتنا الراوية أمام حالة من الغرابة والغموض!

ولم يكن ذلك الغائب الحاضر هو الشخصية الوحيدة، بل تعدد الشخصيات لتتفاعل مع بعضها البعض ومنها: الراوية التي تمثل الشخصية الرئيسة. من تحكي سيرتها وسير الآخرين. وحسن زيتون الذي يراوح دوره بين الحبيب بالمعنى التقليدي والمعنى الأسمى حين أخذت الراوية تناجيه بلغة صوفية رقيقة طوال صفحات العمل. زينب الأم بحضورها الباهت. بسيمة العمة المعاقة التي مثلت الكائن الحكيم. رشيدة الخالة بحنانها حين تستقبل الراوية عند زياراتها لرشيدة الخالة، وصورا شتى ترسمها الكاتبة بشكل آسر لتلك المسافة الفاصلة بين البيتين، وما يكتنف الطريق التي تخترق الأحراش وما يمكن لعدة مخلوقات خطيرة تتربص وسطها كالثعابين والذئاب وغيرها. الغجرية وتنبيهها لها بأنها ستموت في أحضان الماء. رضا. المعلم فريد. ركس الكلب. شاهين الصقر. شادي الطبيب. أسامة. منى … الخ.

تلك الشخصيات بمصائرها المختلفة أستوعبها أفق زماني امتد لسنوات طويلة، يوازيه فضاء جغرافي تنوع بين الإسكندرية بأحيائها ومقابرها وأسواقها وأضرحتها وسواحلها، إلى الرياض بصحرائها ومقبرتها “العود” وحواريها قبل أن تتمدد في زمنها الحاضر وتبرز فيها الأبراج الزجاجية، إلى مدينة رشيد وموقعها بين البحر ونهاية مصب النيل في الأبيض المتوسط  عبر فرعه الذي  سمي باسمها رشيد، ومدينة إدكو المجاورة لرشيد … الخ.

للحيوانات والطبيعة وجود طاغ في هذا العمل، فتلك الطبيعة المتنوعة بين الصحراوية شبه القاحلة وضفاف النيل وحواف القناطر التي تحفل بشتى أنواع الكائنات فتنت بها الساردة، وصورت تلك الطبيعة بتنوعها صورا حية يشعر بوجودها حوله أو أنه قد عاشها معا واقعا وليس خيالا.

وللماء حضور وقد ارتبط بمصيرها كما حدثها الغجرية. فلشواطئ الأنفوشي والكورنيش بامتداده الساحر حضور، كما لضفاف رشيد بخضرتها وحيويتها. فالرواية  يمكننا أن نسميها إسكندرية لما مثلت من نبض محبة لها، حين تتنقل الساردة بذلك الوجد وتلك المشاعر لنشعر برفيف قلبها يحوط هذه المدينة، لتشارك المتلقي من خلال وصفها وتلك اللغة الصوفية في عوالم أقرب ما يمكن وصفه أنها تجرده من البرود التي يعاني منه الإنسان المعاصر.

ومن عقد الحياة في حياة لا ترحم إلى خيال باذخ عبر لغة آسرة. وهي بكل ذلك الوصف تجسد الإسكندرية ككائن له قلب وله إحساس بمن تحتويهم من أحياء وأموات. من بحر وتروع وأحياء محيطة بها.. من صخب وسكون.

إلا أن الأولياء بأضرحتهم ولغتهم قد استحوذوا على المساحة الأوسع. ولم تكتف الكاتبة بتلك العوالم، لتستدعي مما يترسب في وعي المجتمع من خرافات، كالنداهة .. ذلك المعنى الذي يسكن في وجدان الإنسان المصري. وكذلك ما يتصل بأساطير الموت والقيامة لدى المصريين والمتوارث منذ القدم، وما يتعلق بأرواح النيل المتعددة. وكذلك قدرة بعض الأمكنة على تحقيق الأماني. كالبئر المسوّر، بئر مسعود وما يضفي عليه زواره من قدرات.

في نهاية الحديث أنوه أن هذه الرواية بتعدد أوجهها وما حفلت به من تناول ثري حول مدينة ثرية بتاريخها كالإسكندرية، لا يمكن الإلمام بها في بضعة أسطر، إذ أنها تستحق المزيد من القراءات والتناولات.

إلا أنني أود أن أختتم بما لفت انتباهي من انغماس أديبات وأدباء الإسكندرية في حب مدينتهم والتوحد بها. فهذا العمل وأعمال أخرى منها روايات إبراهيم عبدالمجيد ومنير عتيبة وآمال الشاذلي خاصة “أرض المغفرة”. وغيرها من أعمال الأدباء والأديبات حين يصطحبون القارئ إلى تلك الأزقة والمسالك. وتلك المزارات التاريخية والشواطئ الممتدة التي تحفل بإيقاع المجتمع وهم يصنعون الحياة بجمال باذخ هي امتداد لمزيج من الحضارات الإنسانية المتعاقبة على هذه المدينة العريقة. أعمال في مقام أغن الوجد لمحبوبتهم ومعبودتهم الفاتنة الإسكندرية، ومن لا يعشقها.

في نهاية التناول هي تحية لكاتبة متنوعة وأديبة متحدثة، تلفت انتباه السامع لما تحمله من فكر وثراء ثقافي يمنحها القدرة على الكتابة المتجددة، خاصة إذا ما عرفنا أن لها حيوات بين أكثر من بلد وتجارب بين أكثر من تيار فكري مؤثر، فشكرا لها ولهذا العمل المشوق.

 

ميدل إيست أون لاين

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى