(تجربة الكتابة ) 1

احاول تجميع ماكتبته ، خلال سنوات ، عن تجربة الكتابه ، ليكون أحد الفصول من تجربة الحياة
واذا كانت الكتابة ،كنشاط انساني أعمق مما يبدو، والحياة ، كممر اجباري، أسهل مما تخفيه…فان الكاتب في وضع لايحسد عليه…إنه أحياناً قارع طبل في عرس، وأحياناً حفاّر قبور في مجزرة.

هنا أحد النصوص حول تجربة الكتابه .
______________________________________

ما تخفيه الحرب هو الانتباه إلى الفارق، في هذه الفكرة :
“الإنسان يتميز عن إبريق الشاي…بأنه يغلي لمجرد معرفته أنه سيوضع على النار”.

هذه الفكرة نبتت أمامي على الورق، في أول محاولتي لكتابة رواية عن الحرب… ليس عن الحرب تماماً، وإنما عن الموت. ليس عن الموت تماماً، وإنما عن إمكانية الحياة بين قنبلتين، وأنت في طريقك إلى صنبور مياه في حديقة عامة في دمشق، المقطوع عنها الماء منذ شهر. أو في طريقك إلى جامعة الرغيف.

ليس ، أخيراً، عن كل ذلك، وإنما عن الكيفية النموذجية لأن تمسك البغضاء كمعول تحفر به زمناً امتد إلى ست سنوات ونيف. وتدفن ما ترتب على الألم الإنساني من آثار تحتاج عبقرية الحب إلى زمن أطول لكي تمحوه، وتؤسس للغد، ذاكرة للنسيان.

منذ أسبوع وأنا أحاول البدء بالصفحات الأولى، في عزلة تامة كنت أظنها ضرورية لاستدراج الكتابة من ذاكرة طازجة إلى ورق مهمل، ومن الواقع البشع إلى الخيال المنطوي على إمكانية جمال احتمالي.

لكن الذي يحدث… هو أن العزلة، في الشرط الطبيعي مصدر للتأمل، وحالة للتأكد من مشاعر، وبيئة لبشر يقرعون طبلاً في عاصفة…وأنت تأتيك أصداؤه من بعيد… الذي يحدث أن الهجوم الذي تشنه مخازن الذاكرة المحتشدة بكل ما جرى للسوريين في هذه السنوات الحربية… تجعلك، في أول السطور، شخصاً يرتجف ، تماماً، مثل اولئك الذين ارتجفوا من البرد، والخوف، والتشرد، والاحتمالات… والمستقبل المذعور والغامض.

هكذا تصبح العزلة من أجل الكتابة ،هي الازدحام وسط الكآبة.
هكذا تصبح “رواية” الحدث أشبه بفتح مقبرة للتأكد من أن الميتين جميعاً قد حصلوا على دود طمأنينة الجسد الفاني. وإن الجريمة لم تحدث لأسباب جنائية، كسرقة المستقبل، مثلاً.

تذكرت قصة ذلك الحشد المختلط، رجالاً ونساءً في حرب البوسنة، كانوا يحفرون، بأمر من الميليشيا الصربية، خندقاً طويلاً وعميقاً، ليل نهار، وفي الطقس الزمهرير لوسط أوروبا في الشتاء.

وعندما انتهوا من حفر الخندق… أمروهم أن يتركوا المعاول والمجارف خارج الخندق. ثم أمروهم أن يتمددوا فيه، ثم أمروا البلدوزر أن يطمرهم.
روائياً… تصوير البشاعة ليس ضرورياً. تكفي نقطة دم سوداء سالت من جثةعلى شفرة البلدوزر، وعلى صفحة الكتابة، ثم يعم ظلام سينمائي، بقطع مونتاجي، على المشهد.

لكن هذه القدرة التي للإنسان على اختراع وارتكاب معجزة العذاب... هي التي تثير الكاتب بسؤال: لماذا لا يتم الحفر بالبلدوزر مباشرة، ثم يلقى في الخندق البوسنيون المذعورون ويجري ردمهم؟

هكذا اقترح الروائي اللئيم على ضابط… فأمر الضابط الإمساك بالكاتب ورماه في الخندق معهم ، وردموه…

وانتهت الحكاية.

ليست مهنة الكتابة احدى المهن الجيدة…
فالطبيعة التي أصدرتنا، عبر التطور، كطبعات محسّنة من الحيوان… تركتنا نخرّب، عبر العصور، هذا الانجاز: “تحويل القرد إلى إنسان “، حيث أنجزنا، خلال بضعة حروب، وكمية انتهاكات، وجشع مدمر وغير مفهوم ، ” تحويل الانسان الى قرد” !

فكرت أن أرتب حقائب العودة من عزلة الكتابة إلى زحمة القرود ، حيث أتعلق بقلم مقطوع من غصن شجرة … وأعول أوأعوي ، كما في الحقيقة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى