أدونيس: بيروت ألف مدينة ومدينة

ليست سيرة ذاتية، ربما سيرة مواربة، أو لعلها سيرة المكان، ذلك أن أدونيس في «بيروت ثدياً للضوء» («دار التكوين» ــ دمشق) يتوارى خلف الفكرة أكثر من انخراطه في الذات. المدن بتناقضاتها وطبقاتها الفكرية وهندسة عمارتها، هي من ترسم صورته. يقوّض الخريطة المكتملة للمكان، ليعيد تشكيل البؤرة المشعّة وحسب. الحنين إلى قصابين قريته الساحلية، لا يأتي من باب التأريخ الشخصي، إنما بقصد تهوية البذرة الأولى لاكتشافه عشبة الشعر، تلك التي ستحدد مصيره اللاحق وحلمه في التعلّم. هكذا وقف الصبي القروي أمام الرئيس شكري القوتلي منشداً قصيدة مديح، كانت سبباً في التحاقه بالمدرسة، إثر توصية من الرئيس نفسه. على أن الوقائع اللاحقة أطاحت أحلامه، بعد أن زُجَّ في سجن المزة العسكري بتهمة لم يحاكم عليها.

سنلحظ نفوره من مدينة دمشق، في إشارات خاطفة، معتبراً إياها زماناً لا مكاناً، منطقة عبور لا إقامة، وإذا ببيروت التي هرب إليها بعد خروجه من السجن، تتحوّل إلى ولادة ثانية، كأن دمشق – بالنسبة له – زنزانة معتمة، فيما وجد في بيروت شعلة الضوء، أو ثدياً لحليب المعرفة ورحابة الفكرة، وألق السجال «إنها السُّكنى الأنطولوجية للشعر، وللشعراء بالمعنى الأعمق»، و«إنها الجسم الحاوي لنفسي المنكسرة، ولحمي الحيّ» يقول.

مروحة بأطياف متعددة لبيروت، نثراً وشعراً، بفضاءات لا نهائية. بالطبع سيتوقف أولاً عند «مجلة شعر» وعتبات الحداثة الشعرية، ومشروع يوسف الخال ورفاقه في خضّ سكونية الشعر العربي، على أن ثقافة أدونيس المشبعة تراثياً، ستتفتح على مقترح الشعر الفرنسي بفتنة إضافية، وستجد أرضها الجديدة فوق صفحات «شعر» الذي كان أحد مؤسسيها وراسمي تضاريسها، قبل أن يؤسس مجلته «مواقف». لكن صورة بيروت ستتعرض لاهتزازات، وألوان «لا تكاد ترتسم حتى تزول». هكذا يؤسس شعرياً لروح المدينة، قصائد مكتوبة بفترات متباعدة، تتجاور مع سرد متوتر ينطوي على سجال وأسئلة تطرحها بيروت بوصفها «ألف مدينة ومدينة»، فهي، كما يقول «ليست مستودع أجوبة.

إنها بالأحرى رحم لتوليد الأسئلة»، وهنا يكمن سرّها بالمقارنة مع المدن العربية الأخرى. الترحال تجدّد، هذا ما تعنيه بيروت في حضورها وغيابها، ذلك الحوار بين جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة، والخصام بين البحر المتوسط وصنّين، وهي نصّ المتاهة بتشظياته المتنافرة التي ترسم المسافة بين النص/ الأب، ونص الجماعة/ الطائفة، فيما ينزلق الفرد نحو موضع الشبهة. في تأملاتٍ أخرى أكثر كشفاً ومكاشفة، يستدرج سؤال السياسي والثقافي وصولاً إلى «تجريد» اللغة الشعرية، تلك التي بالكاد تلامس الأشياء، بما يشبه الاستيهام المحض، وإذا بالذاكرة البيروتية تستدعي الهاوية وحسب، طالما أنها قتلت الأب والأم في آنٍ واحد «المكان هنا ورقة يتدحرج عليها نرد التاريخ»، و«الصوت جريدة ناطقة»، و«الكتابة جريدة خرساء»، كمحصلة لـ «تقنية في العنف: ضد اللغة ذاتها أولاً، وضد الوعي».

ليس هناك دمغة نهائية في تفسير بيروت، فهي علمانية دون علمانية، وتعددية دون تعددية، وديمقراطية دون ديمقراطية، وهنا يكمن تميّزها، والخطر الذي يهدّد هويتها، خصوصاً بما يخص «تعريبها»، وبمعنى آخر إدخالها في الشمولية، وإخراجها من هويتها، وتالياً، هي «مسرح دمى، أحياناً، ومسرح دم، أحياناً أخرى». سؤال الطائفية لن يغيب عن محاورات أدونيس أيضاً، بالتوازي مع سؤال العمران الذي يفتقد اللقاء الحميم بين البناء والفضاء، ما يؤسس لثقافة تنطوي على «الرياء، والزخرفية، والتبجّح»، فيما يتخذ الفضاء هيئة «متحدات طائفية» تتأرجح بين حروبٍ خفيّة، أو معلنة، و«في هذا يتولد الشعور عند كل طائفة بأنها تعيش في بيروت، في ما يشبه برميلاً مثقوباً»، ثم «هل بيروت، اليوم، مدينة حقاً، أم أنها مجرد اسم تاريخي؟» (2003). هذه الصورة في تشريح بيروت أثارت عاصفة من الانتقادات ضد «مهيار الدمشقي»، ما اضطره لتوضيح فكرته بمقال طويل تحت عنوان «ليس لأحد أن يعلّمني حب بيروت»، مستغرباً ردود الفعل العنيفة التي اعتبرها «تصدّعات وانشقاقات كبيرة في الخطاب اللبناني»، ومحنة هائلة في قراءة بيروت «ليس لأنها غامضة، عصيّة، وإنما لأنها محجوبة بمختلف أنواع المقدّسات». ليست بيروت وحدها بؤرة هذه السيرة الثقافية، سيتوقّف الشاعر عند مدنٍ أخرى: الاسكندرية، براغ، برلين، باريس، كردستان، غرناطة، البندقية، طهران، القاهرة، غزّة، مازجاً الوقائع بالحلم، تبعاً لإشراقات هذه المدينة أو تلك. لاحقاً سيقلّب دفتر بيروت بوصفها شخصيّات هذه المرّة. هكذا سنلتقي بدر شاكر السيّاب في فضاء «مجلة شعر»، وميشيل بصبوص، ويوسف الخال، وغسان تويني، وسعيد عقل، والطاهر لبيب، وأنسي الحاج، ويوسف غصوب، ومحمود درويش، وآخرين. في باب الاستثناء يضع أدونيس مجلتي «شعر»، و«مواقف» في طليعة المجلات التي وجدت في بيروت حضناً رحباً «تجسدت فيهما قطيعة معرفية وكتابية»، في مواجهة عقم الخطاب العربي السائد حينذاك. وسيلخّص مصطلح «سلطة/ ومعارضة» بقوله «تجيئ السلطة من الوراء باسم الأصول، إجمالاً، وتجيئ المعارضة من الأمام باسم الحداثة، إجمالاً، لكن في نفقٍ واحد. وكلُ منهما تدّعي أنها تؤسس للمستقبل، لكنها تنام وبين يديها كتاب في وصف الجنّة». سؤال المستقبل يستدعي تقليب تربة المقدّس الديني وثقل حضوره في الممارسة السياسية والثقافية، ذلك أن الأسئلة المطروحة اليوم «تنبثق من طغيان الماضي وموروثاته على هذا العالم، وهو طغيان يفرض على الحاضر- المستقبل أن يثيرها». لكن العقل العربي الأصولي، أو الثوري حوّل الأصول إلى معتقل، وحوّل العقل إلى مجرد «آلة عمياء»، تولّد العنف باسم الدين أو الأيديولوجيا. هكذا وجد صاحب «هذا هو اسمي» نفسه منفيّاً، في الثقافة واللغة والفكر. منفى داخلي في المقام الأول «وُلد جسدي في هاوية وصار هو نفسه هاوية. فليس المنفى شيئاً أضيف إلى حياتي. إنه حياتي نفسها».

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى