إبراهيم فرغلي: سِحر التّيه

 

يحبّ إبراهيم فرغلي لعبة الخيال ويتقنها. ينفر من الكتابة التقليديّة ومن الترتيب «الطبيعيّ» للأشياء والحياة، فيغيّرها على هواه. يكتب بعينيه وأذنيه بقدر ما يكتب بذاكرته. تتداخل الألوان والأغاني والأزمنة والأمكنة «الواقعيّة» مع عالمٍ فنتازيّ يوازي هذا الواقع ويتقاطع معه أحياناً. يتبادل العالمان التأثّر والتأثير ويتبادلان العناصر، فتنتج صورة ضبابيّة غامضة تنزع من الأشياء صفاتها القديمة وتُلبِسها مظهراً جديداً، فلا يعود المكان هو المكان ولا الزمان هو الزمان، ولا حتى الإنسان كما «يُفترَض» به أن يكون. وبرغم أهميّة الطروحات والأفكار والمشاعر التي تشكّل فضاء الكتابة عند فرغلي، إلا أنّنا لا نشعر (أو لا نريد أن نشعر) بأنّ هذا الفضاء هو فضاؤنا المعتاد. ليس هذا هو الحاضر مع أنّه يُشعرنا بقسوة أيامنا، وليس هو الماضي لأنّ الماضي كان أجمل أو لعلّ قسوة الحاضر ترغمنا على تخيّل صورةٍ ورديّة لذلك الماضي، وليس هذا هو المستقبل لأنّه سيكون مستقبلاً قاتماً يخنق الروح.

ما الذي نراه ونعيشه إذن في عالم إبراهيم فرغلي؟ يتنامى ضغط التساؤل مع روايته الجديدة «جزيرة الورد» (منشورات المتوسط)، إذ نرى شجرة عناوين: عنواناً رئيساً وثلاثة أغصان تمثّل عناوين فرعيّة لثلاث نوڤيلات. هذا هو المفروض، إذ يعرف متابع تجربة الكاتب أنّ اثنتين من هذه النوڤيلات («ابتسامات القدّيسين» و«جنّية في قارورة») صدرتا عامي 2004 و2006، ولكن مع انتهاء القراءة سندرك أنّنا أمام رواية واحدة فعلياً، لا تشبه الشّجرة بقدر ما تشبه ثلاثة عوالم متداخلة، لا تكتمل تجربة معايشتها إلا بقراءتها كلّها. ومن هنا كانت ضرورة كتابة الحلقة الثالثة «مفتاح الحياة» برغم الفارق الزمنيّ الطويل الذي يفصلها عن سابقتيها وبسببه في آن، وإنْ كان تطوُّر التجربة قد تبدّى في فوارق نضج الكتابة بين الحلقات الثلاث، بحيث بدا من الأفضل لو عدّل الكاتب الروايتين القديمتين بحيث تتوافقان مع مستوى البراعة العالي في الرواية الثالثة، ولكنّ هذا الأمر يعود لتقدير الكاتب، وهو رهنٌ بتلقّي كل قارئ بحسب ذائقته.

تبدو شخوص الرواية كأنّها في سباق تتابع دائريّ لا ينتهي. يتحوّل الراوي في حلقة إلى كومبارس في حلقة أخرى، فيظهر راوٍ آخر وهكذا على طول صفحات الرواية التي تُماثل المرايا. تتداخل الشخصيّات في ما بينها إلى حدّ أنّ الشخصيّة ستعجز عن الاكتمال من دون وجود الشخصيّات الأخرى، لكنّها تصون فرادتها في الوقت ذاته. ففي لعبة الحضور والغياب، الذاكرة والحلم، الطفولة والشيخوخة، الجسد والروح، الذات والآخر، تتصادم المصائر ضمن ضبابيّة حلميّة تُخَلْخِلُ ترتيب الواقع وتُشكّل واقعاً مغايراً نتبيّن فيه بؤس عالمنا المحكوم بصفاتٍ صارمةٍ للأشياء والكلمات، المحكوم بتصنيفات لا سبيل إلى تبديدها، تلتصق بنا كلعنة أبديّة.

يتأمّل فرغلي الواقع بعينٍ واعية تدرك أدقّ التّفاصيل في هذا المجتمع المحكوم بلعنة التصنيفات، ويُطلق – في الوقت ذاته – خياله ليرسم عالماً مُشتهى تنتفي فيه القيود. تُشرِّح رواية «جزيرة الورد» عناصر هذا المجتمع الطائفيّة والطبقيّة والسياسيّة والاقتصاديّة، وتحاول رسم عالم ممكن آخر، تستعيد فيه مدينة المنصورة اسمها القديم الأجمل «جزيرة الورد»، ويستعيد فيه البشر حيواتهم التي سُرقت منهم بفعل البطش والقتل والتّمييز، وتترك النهاية مفتوحة مثل عينٍ تتأمّل الأفق الذي يُخفي الكثير. تُلامِس الرواية الماضي من دون أن تغرق في نوستالجيا طفوليّة، وتواجه الحاضر من دون أن تُقيِّد المشهد بصورة جامدة واحدة لا فوارق فيها، وتمدّ رأسها باتّجاه مستقبل مجهول من دون أن يُغريها تفاؤل أو تشاؤم ساذجان.

وبمعزل عن التصنيفات الجديدة التي تكاد تخنق المشهد الروائي العربي، وتريد تكريس روايات مكتوبة بالمسطرة لا حياة فيها، نجد بين أيدينا رواية مكتوبة ببراعة لم يُثقلها موضوعها الأساسيّ الذي يتناول أكبر قضيّة إشكاليّة مصريّة راهنة: العلاقة بين المسلمين والمسيحيّين.

موضوعٌ كهذا كان سيشكّل فخاً سقط ويسقط فيه كتّاب كثيرون انشغلوا بالأفكار والتّنظيرات ونسوا أنّ الرواية عملٌ فنيّ في المقام الأول. يكتب فرغلي عن الأمكنة بتفصيل دقيق بحيث نكاد نشمّ هواء الشوارع ونُبصر الأبنية واختلاف عمارتها ونسمع الأغاني والهمسات المتسلّلة من الشّبابيك، كأنّنا تحوَّلنا إلى أطياف – كأطياف الرواية – نكسر حواجز الزمان والمكان. يكتب عن الجسد والجنس بجمال لافت لا نرى مثله كثيراً في الروايات التي تنسخ ولا تُبدِع، تُقلِّد ولا تخلق. ويكتب عن فرادة ولعنة أن تكون مسلماً أو مسيحياً في مجتمع يُقدِّم الخِلاف على الاختلاف.

رواية «جزيرة الورد» مكتوبةٌ بهدوء لا افتعال فيه، وينبغي أن تُقرأ بهدوء إن أردنا فهمها والاستمتاع بها.

ربّما تتكاثف الضبابيّة في بعض الفصول بحيث يضيع القارئ أحياناً، ولكنّها رحلة تيهٍ تستحق المغامرة، بحيث تترك نفسك تضيع وسط هذا الضباب، ثم تتوقّف قليلاً لالتقاط أنفاسك وإعادة تأمّل الطريق التي قطعتها. روايةٌ مكتوبةٌ بحبّ وتُقرأ بحبّ، رواية لكاتب يعشق الخيال ويكتبه ببراعة. رواية تتطلَّب قارئاً صبوراً يدرك أنّ الجمال والأدب هما «مفتاح الحياة».

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى