البنغالي سعد حسين روائي فانتازي في «مدينة الجن»

بعد روايته الأولى «الهروب من بغداد» (2013)، التي رصدها لتصوير وضع العراق خلال الغزو الأميركي له عام 2003، يطلّ الكاتب البنغالي سعد حسين برواية جديدة صدرت حديثاً في نيويورك تحت عنوان «مدينة الجنّ» وهي، مثل سابقتها، عبارة عن كوميديا سوداء، ساخرة وخيالية، يستعين حسين فيها بأساطير عربية قديمة لابتكار عالمٍ على حافة الانهيار يشكّل مرآةً لعالمنا اليوم.

أحداث الرواية تدور عام 2066 في مناطق مختلفة من العالم، وأيضاً في السماء وتحت الأرض. أما بطلها فطفلٌ في سنّ العاشرة يدعى إندلبيد وينتمي إلى عائلة خان الرحمن النافذة في عاصمة بنغلادش. في مطلع النص، نراه يعاني من العزلة لعيشه في منزل كبير وقديم مع والده، الدكتور كايكوباد، وهو علّامة يمضي وقته في الشرب منذ وفاة زوجته، ويمنع ابنه من مغادرة المنزل لسبب مجهول. ولكن حين يقع كايكوباد في حالة غيبوبة ويعجز الأطباء عن إيقاظه، يكتشف إندلبيد أن والده هو في الواقع ساحر اختاره الجنّ كي يكون مندوباً لهم لدى البشر، وأن أمّه التي توفيت أثناء إنجابه كانت جنّية.

ولأن العرق الهجين الذي ينتمي إليه إذاً يضعه في حالة خطر مميت، لكونه مستهدفاً بالقتل على يد الجنّ، تقرر زوجة عمّه وابنها الشاب ريّس حمايته عبر إخفائه عن الأنظار، فيوكلان صديق كايكوباد، المحامي الأفغاني دارغومان، بهذه المهمة. لكن بدلاً من الاضطلاع بها، يسلّم هذا الأخير إندلبيد إلى الجنّي ماتيراس الذي يرمي الطفل في حفرة متاهية ومسحورة كان قد سجن فيها العفريت غيفاراس.

انطلاقاً من هذه النقطة، تتقدّم عملية السرد في الرواية وفقاً لثلاثة خطوط متوازية: الخط الأول يسمح لنا بمتابعة مصير إندلبيد في سجنه حيث يضطلع غيفاراس بمهمة تعليمه بعض الأمثولات الصعبة لكن الضرورية لفهم جانبه الجنّي واكتشاف قواه السحرية، وبالنتيجة تحرير نفسه من الأسر. هكذا، ومن طفلٍ ساذج ورقيق، يتحوّل إندلبيد تحت أنظارنا إلى تنين على يد العفريت: «نعم، لقد حوّلتك إلى وحش»، يقول غيفاراس له في مكان ما من الرواية، «لكنك قلتَ لي إنك تريد البقاء على قيد الحياة، وهذا هو الثمن. في هذا العالم، لا يوجد فرسان بدروعٍ لامعة، يا صغيري. حين تحارب الوحوش، لا يمكنك إلا أن تصبح واحداً منهم».

على الخط السردي الثاني، نتابع محاولات ريّس الدؤوب للعثور على إندلبيد، وهو ما يضطره إلى خلافة كايكوباد كمندوب لعالم الجنّ وإلى ولوج مجتمعهم ومعاشرة أفراده الذين يتجلون له بصفات بشرية وخارقة أكثر مما اعتقده في البداية. هكذا ينكشف له ـ ولنا ـ المخطط الجهنّمي للجنّي ماتيراس الذي يسعى بالقوة والحيلة إلى إقناع أبناء جلده بضرورة التخلّص من الجزء الأكبر من البشر عن طريق إحداث كوارث طبيعية كبرى، وذلك بسبب تكاثرهم واستهلاكهم الأرض وثرواتها.

أما الخط السردي الثالث فيتركّز على مصير كايكوباد الذي يتبيّن لنا بسرعة أن غيبوبته ليست سوى عارِضٍ لدخوله بُعداً آخر يتمكّن داخله من تأمّل أحداث تاريخية قديمة وفهم بدايات مدينة الجنّ الأولى وسبب تواريها، أي تلك الحرب الكبرى التي تواجهت فيها هذه الكائنات الخارقة في ما بينها منذ عشرين ألف عام.

وكي لا نفسد على القارئ متعة قراءة الرواية، نكتفي بهذا الحد من قصّتها التي تغطي عقداً من الزمن وتعجّ بالمغامرات والتطوّرات المشوّقة التي تتعاقب بإيقاعٍ محموم، ونتعرّف فيها إلى بشرٍ من كل الأنواع، إلى تَنانين وديدان شرسة، إلى كائنات بحرية رهيبة، وخصوصاً إلى عالم الجنّ الذي يجدّد حسين أساطيره من أجل إنارة حاضرنا.

وفعلاً، على قارئ الرواية أن ينسى حكايات «ألف ليلة وليلة» ومعها كل القصص التي قرأها عن الجنّ، لأن الكاتب يعيد فيها ابتكار هذه الكائنات عبر إدخاله عليها جوانب جديدة وإسقاطها في ظروفٍ راهنة. وفي هذا السياق، نراها كجنسٍ متفوّق بقدرات خارقة وحياة مديدة، تدفعها حماقة البشر إلى التحرّك من أجل إنقاذ العالم. ولكن هذا لا يعني أنها مجرّدة من العيوب، بل تبدو مثل البشر، خيّرة أو شريرة، لا تكترث لأمثولات التاريخ وتميل إلى تسييس كل شيء وإلى المجادلة الوجودية. وحين يتعلّق الأمر بأصولها، تنقسم إلى معسكرَين: معسكر محافظ يؤمن بالتفوّق الطبيعي للجنّ ويبدو مستعداً لإبادة البشر من دون أي رادع أخلاقي، ومعسكر يؤمن بنظرية التطوّر ويدعو إلى التعايش السلمي مع البشر. ومن هذا المنطلق، تشكّل «مدينة الجنّ» إطاراً معقّداً ومثيراً لتصوير تلك المواجهة الثابتة بين الأيديولوجيا والحقيقة التاريخية، ولنقضِ الأسس التي تقوم عليها فكرة التدرّج العرقي.

وسواء كانت بشرية أو جنّية، يخضع حسين شخصياته لعالمٍ تميّزه فوضى مبلبِلة، موزّعاً الألم المجاني عليها بنشوة سوداوية، خصوصاً في الجزء الأخير من الرواية حيث لا تلقى الأفعال الشريرة، كالقتل والخيانة، العقاب بل المكافأة، بينما تشكّل القوة والعلاقات السياسية الشرطَين الأساسيين للبقاء على قيد الحياة، والحيلةُ والخداعُ البديلين الوحيدين الممكنين. فللحصول على قدراته الخارقة كنصف جنّي، يتوجّب على إندلبيد أن يتحوّل إلى وحش ويتخلّى عن شكله البشري وطيبته. وللحفاظ على ثروته المالية وتعزيز نفوذه، يبدو جدّه وبطريرك عائلة خان الرحمن مستعداً منذ البداية للتضحية بحياة حفيده.

وبالتالي، ثمة رسالتان رئيستان يسيّرهما الكاتب على طول نصّه: الأولى هي أن لكل شيء ثمناً، والثانية هي أن السلطة تفسد النفوس وتلغي الحسّ الأخلاقي لمن يتمتّع بها أو يرغب في بلوغها. وفي هذا السياق، تمزّق الرواية الفرضية التي تقول بطيبة البشر وشرّ الجنّ، فالكارثة التي تتربّص بهما في نهايتها تفجّر هذا الاختلاف المفترَض بينهما، خصوصاً حين تنكشف لنا أسبابها ويتّضح أن البشر والجن منحدران من سلفٍ واحد.

باختصار، تشكّل «مدينة الجنّ» في جوهرها تأمّلاً ثاقباً وعميقاً في سديم عالمنا الراهن وطبيعة الإنسان العنيفة. وقد شيّد حسين نصّها على شكل نشيدٍ متصاعد، يرتفع تدريجاً مثل زوبعة أو إعصار، وتتحكّم به في العمق شبكة معقّدة من العناصر تعزّز قوّته وتدفع به إلى الأمام. تشييد لا تفسّر مهارات الكاتب السردية والكتابية وحدها جاذبيّته، بل أيضاً مخيّلته الجموح وحسّه الدعابي الذي يستحضر بطابعه الساخر روايات غود أومنِس ونيل غايمان وتيري براشيت التي تنتمي إلى النوع الأدبي نفسه. وفي حال أضفنا تلك الطريقة الفريدة والناجحة في خلط الواقعي والخارق داخل القصّة المسرودة، لتبيّنت لنا كل قيمة هذه الرواية التي تعدنا نهايتها المفتوحة بجزءٍ آخر ننتظره بفارغ الصبر.

صحيفة الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى