التدمير الذي يسكن النفوس المكلومة

إن النبذ هو احدى العلات التي تؤدي إلى الكسر، لكنّ انهزام المثقف الطليعي والليبرالي أمام جبروت النسق الثقافي الذي ينتمي إليه، هو مما يزيد من الألم ويعمقه، وكان هذا حال والد كوثر، الرجل المثقف والليبرالي المتخرج من الجامعة الأميركية في بيروت، والذي دافع في شبابه عن زواج أخته الشيعية من زميلها الشاب السني أمام رفض والده حتى نجح في ذلك». وبعد ثلاثين سنة حين فاتحت أبي في مطلع 2010 أن رجلاً ينوي التقدم إليّ: «يا مرحب». عبر شيء من البشر وجهه، وسألني: «من الذي سيأخذ حبيبة قلبي؟»، ولكي لا أطيل عليه، أفصحت قائلة: «رجل سني»، فجأة تكدر ماء وجه أبي. شعرت به يتحاشى النظر إليّ» (ص57). إن الحوار الذي دار بين كوثر ووالدها يكشف الأثر الذي يمارسه النسق الثقافي على الأفكار المتحررة، فهو، أي النسق، راسخ وله سدنة كثر، وهو محميّ بأعراف وتواضعات ظاهرة ومضمرة، وفوق ذلك يتسلح بسلطته الممتدة في الزمن الذي يحرك مياهاً كثيرة ويراهن على ضعف المواقف المرتبطة بالضعف الإنساني المقرون بإخفاقات أحلام التغيير التي تضيق حتى تختفي، فيصبح مناهضو النسق الثقافي المعيب أكثر الناس دفاعاً عنه، وطبعاً لا بد من أن يوجدوا التبريرات الملائمة لتبدل المبادئ والأحلام، وفي الحقيقة لتبرير الفشل.

إن كوثر الراغبة في الاستقلال وفي ممارسة حق الاختيار تتحرش بمؤسسة ثقافية راسخة ومتجبرة. وهي تعي بذلك، ورغم ذلك تتحداها على رغم ما يعتريها من خوف ضروري من الفشل في هذه المواجهة غير المتكافئة. ولكي نفهم مصدر هذا التحدّي، فإننا، لزاماً، ينبغي أن نعود إلى طفولتها التي ارتبطت بالكتاب حين كانت قريبة جداً من والدها المثقف المتنور وصديق الكتّاب الذين كانت تناقشهم. ولعل اختلاطها بهم جعل كثيراً من صفات «الذكورية» تترسب في شخصيتها. والذكورية، هنا، هي الصفة السحرية التي تمنح الفرد في المجتمعات العربية حرية كبيرة ومساحة محترمة للاختيار بل حتى التحكم في مصائر من يعايشهم. لكن الأب الذي كان سبباً في هذا الفكر المتحرر نسبياً أراد، بعد فوات، أن يجعلها تلعب، كما أخواتها، دور الأنثى المرسوم في النسق الثقافي.

وعلى رغم ما قد يمس بعض القراء من تعاطف مع كوثر في معركتها ضد المؤسسة في جانبها التحكمي، فإنه قد يلمس بعض الأنانية التي هي نسق ثقافي ناسخ، يسحق ما دون الأنا ولا يعترف به، ومنه إصرارها على الزواج من رجل مرتبط بزوجة وأبناء في إطار مؤسسة هادئة ومسالمة، ولكأنها تسعى إلى تفكيك هذه المؤسسة وخلق شرخ فيها إرضاء لشهوة الأنا في التملك والاستفراد بشخص ما. وكوثر لا تنكر أنها كانت البادئة في إغراء مشاري، وأنها من حاول أن يكدر جلسته العائلية مع زوجته حينما التقتهما صدفة في أحد المطاعم الشهيرة، وأنها اشترطت عليه تطليق زوجته للزواج بها مع تعليقات تشي بتلذذها الغريزي بما تفعل. ولكأن ممارستها حريتها واختيارها لن تمر إلا على حساب أشخاص أبرياء.

وإنه إذا كان تحرش كوثر بالمؤســـسة الثقافية، في جزء، منه يعد محـــموداً ومطــلوباً لتحقيق بعض الإنصاف، فإنها هي نفسها مارســت شــكلاً من اســتبداد الذات حينما جعلت اختيارها مقروناً بتفكيك مؤســــسة زواج أخرى، لم يكن لها أي دور في انكسارها. ولكنها عقيدة التدمير التي تسكن النفوس المكلومة حين تظفر بإمكان فعل ذلك، ولعله لهذا السبب يسكن كوثر الكثير من خوف الارتماء في أتون هذا الزواج، ربما إحساساً مضمراً بالكسر الأكبر المقبلة على فعله في حق مشاري وزوجته الأولى. ومنه نفهم لِم توقف الزمن عند لحظة الصباح التي سبقت موعد زواجهما الذي من المفترض أن يتم بعدها بساعات قليلات، وهو الزمن الذي استرجعت فيه تفاصيل كثيرة من حياتها الملأى بالخوف والألم والخيبات، قبل أن تحاول ترميم كسرها بإحداث كسور أخطر في أمكنة أخرى. والمثير أن السارد الناظم المركزي الذي من المفترض أنه طالب الرفاعي يسترجع سلطته السردية ويجعل قصة مشاري وكوثر مفتوحة على إمكانات مختلفة قد يكون التراجع عن إحداث الكسور هنا وهناك إحداها.

إن رواية «في الهنا» تجربة سردية مفعمة بمتعة التلقي التي تخلقها شعرية اللغة والالتباس المقصود بين السيري والتخييلي، لكنها أيضاً رواية بقصديات ثقافية مختلفة، ومنها نكؤها جرح تراجع الاعتبار الإنساني في العلاقات بين الناس، وبين الإشارة إلى تجبر المؤسسة الثقافية في استعبادها الأفراد وحظر حقهم في الاختيار، وبين علو مستوى الأنا إلى درجة تبدل ظلم بظلم وألم بآلام. إن الرواية محاولة للوقوف على أشكال الكسر التي تسببها الذوات والمؤسسات من دون أدنى شعور بحجم الخسارة المحدق بالجميع.

صحيفة الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى