التصوّف يستثمر التنظير للولاية في تجديد الإسلام

 

إنّ صورة الولي الصوفي إن هي إلا علامة تعجّ بالأحلام والرؤى، وهي غالباً ما تكون أحلاماً تحريضية مبشرة بعالم أجمل وأفضل وأرقى، عالم لا تقدر على صنعه إلا النماذج الباهرة الفائقة الفذة. من هنا، كانت نظريات المتألّه والباحث المتألّه وخاتم الأولياء والإنسان الكامل وغيرها معبرةً، بحق، عن تشوّف أهل التصوّف إلى بناء إنسان سماوي كامل، قادر على تجاوز حالة الضعف والذلّ والاستكانة والقهر، وعن رغبتهم في إقامة المدينة الفاضلة، مدينة الأرواح، على أنقاض مدينة الأشباح.

انطلق من هذه الرؤية الباحث التونسي نور الديم المكشر في كتابه المتميز “الولاية في التراث الصوفي” مشيرا إلى أن مفهوم الولاية في الفكر الإسلامي قد شكّل مسألة خلافية ليس بين الفرق الإسلامية فحسب، ولكن بين الاتجاهات الصوفية أيضاً.

ورد المكشر هذا الاختلاف إلى عاملين أساسيين هما: المسلّمات الفكرية والعقائدية التي يعتنقها كلّ اتجاه، والأوضاع التاريخية الحافّة التي أثّرت في تشكل تلك المفاهيم التي بدت حيّة ومتحرّكة تحرّك التاريخ الإسلامي نفسه. ولئن كان المدار الدلالي الغالب لمصطلح ولاية في النص التأسيسي هو القرب والنصرة والمحبة والصداقة والتقوى والورع، فقد تطوّر، لاحقاً، فاتسعت دلالاته وتعدّدت أبعاده تعدُّد الفرق الكلامية والاتجاهات الصوفية.

لقد بدا مفهوم الولاية مسألة خلافية مثيرة لجدل كلامي وفلسفي وسياسي بين مختلف أطياف الفكر الإسلامي، فاستفحل الخلاف بينها في تأويل المصطلح وتوظيفه، واستحالت الآيات والأحاديث سنداً إيديولوجيّاً؛ إذ غالباً ما تؤوّل تأويلاً يخدم أغراض المؤوّل الدينية والزمنية، وقد أنتج هذا  التباين التأويلي خلافاً حادّاً بين الفِرق، في خصوص مفاهيم الولاية ومقوّماتها ووظائفها.

وأوضح مراحل ظهور مسألة الولاية في كتابه الصادر عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود قائلا إنه انطلاقاً من القرن الثالث للهجرة، بدأ المتصوّفة الخوض في قضايا الولاية، وكانت أولى محاولاتهم متجهة إلى تحديد الوسائل العملية الموصلة إلى هذا المقام السامي، أكثر من الخوض في المفاهيم وضبط النظريات. لينشأ مفهوم جنيني خاص للولاية الصوفية مخالف لما كان متداولاً لدى أهل السنّة والشيعة. وهنا بدأت الخلافات تدبُّ بين الأطياف الصوفية؛ بين من ينزل هذه المفاهيم في الكتاب والسنة، وبين من لا يتحرج في التعويل على المصادر الأجنبية، الدينية منها والفلسفية. ولئن كان مفهوم الولاية الصوفية في طور النشأة متصلاً بالأصول، مقيداً بالكتاب والسنّة، فإنّه سرعان ما شهد انعطافاً حاسماً مع البسطامي والحلّاج والحكيم الترمذي، الذين استسقوا من معين الأديان والثقافات الأجنبية.

وأضاف المكشر أنه انطلاقاً من القرن الرابع للهجرة أخذت نظريات الولاية الصوفية تتبلور وتتشعّب؛ فاتضحت معالم الولاية السنيّة بفضل جهود القشيري والكلاباذي والطوسي، وحرص هؤلاء على تأصيل نظرياتهم الولائية في النص التأسيسي دفعاً للشبهات التي حامت حول التصوّف بعد مقتل الحلّاج، وتجنّد عدد من المتكلمين والفقهاء لمحاربته بتعلة أنه من البدع والضلالات التي ما أنزل الله بها من سلطان. وشهد القرن السادس نشأة مذهبين ولائيين اغتنيا من كلّ الإسهامات الأجنبية، الدينية والفلسفية، وهما الولاية الإشراقية للسهروردي، والولاية الفلسفية لابن عربي. وانطلاقاً من هذا القرن، الذي شهد استفحال لون صوفي جديد هو التصوف الشعبي، نشأت ظاهرة ولائية متأثرة بالظروف التاريخية والثقافية السائدة. وقد خلع المتخيّل الصوفي الشعبي على أنموذجه الولائي من الكرامات والمناقب ما جعله أقرب إلى الكائن الأسطوري منه إلى التاريخي.

ورأى أنّ عقيدة التوحيد التي يعتنقها كلّ اتجاه من الاتجاهات الصّوفية هي المؤثّرة في تحديد مفهوم الولاية؛ فمتصوّر الألوهية هو المتحكّم في متصوّر الولاية بما هي شكل من أشكال العلاقة بين الخالق والمخلوق.

إنّ للإله في التصوّف الإسلامي صورتين متباينتين؛ صورة الإله المستشرف، ويعتنق هذه الصّورة التصوّف السنّي بلونيه المعتدل والمتشدّد، وصورة الإله المستدني، وتتبنّاها الاتجاهات الصّوفية الأخرى. وإلى جانب تحكّم عقيدة التوحيد في تشكيل مفهوم الولاية، فإنّ لمتصوّر النبوّة في الضمير الإسلامي دوراً في توجيه ذلك المفهوم، ولا سيّما أن النبوّة كانت لدى بعض المتصوفة الإطار المرجعي في بناء نظرية الولاية، وفي الوصول إلى حدّ المماهاة، أحياناً، بين الولي والنبي. أمّا المدافعون عن أفضلية النبوّة فإنهم لا يكتفون برفض هذه المقالات؛ بل عدّوها من البدع والضلالات المستوجبة أشد العقوبات، واستماتوا في نفي أيّ شكل من أشكال المماثلة بين الولي والنبي.

أشار المكشر إلى أن معظم الاتجاهات الصوفية لم تعوّل على العقل في رسم معالم الولي؛ بل جنحت إلى المتخيّل؛ لأنّ فيه من المواصفات ما يحقّق توق الصوفي إلى المطلق. من هذه الخصائص قدرته على التحليق في أبعد الآفاق والانطلاق في كلّ الاتجاهات بلا حدود ولا قيود، فضلاً عن انفلاته من الرقابة في التعبير عن الحلم وعن الرغبات الدفينة، من خلال تشكيله شخصياتٍ ولائية أقرب إلى الأسطورة منها إلى التاريخ. إنّ صورة الولي الصوفي وما أنيط بعهدته من وظائف إنتاجٌ متخيّل أساساً، رغم أن معظم أعلام التصوّف يؤكدون أنّ أولياءهم تاريخيون، وأنهم بشر من لحم ودم. وهنا لا مفرّ من التساؤل عن طبيعة المتخيّل الصوفي وهو ينتج مقالة الزعيم الروحي.

وكشف أنّ المتخيل وسيلة مخصوصة نتعامل بها مع الواقع، إمّا بتأييده وتبريره وإعادة إنتاجه، وإمّا بإدانته ومعارضته والهروب منه إلى واقع آخر. وقد تبين نزوع المتخيّل الصوفي، بدرجات متفاوتة، إلى خلق شخصية نموذجية رمزية أقرب إلى المثال منها إلى الواقع؛ شخصية فيها من المواصفات المتميزة ما يجعلها قادرة على تلبية رغبات وانتظارات الأوساط التي صنعتها؛ فلكل طيف نموذجه ولكل عصر وليه. ولكن نمط التخيل ودرجته يختلفان من اتجاه صوفي إلى آخر، فبالنظر إلى صورة الولي يمكن أن نسجّل نمطين من التخيّل؛ التخيّل السنّي، ومن أهم  سماته الاعتدال بعدم الجنوح إلى الأَمْثَلَة المفرطة؛ فالولي بشر من لحم ودم، إنه شخصية واقعية فوق مرتبة المسلمين العاديين، ولكن دون منزلة النبوّة والألوهة؛ فهو مؤمن تقي عفيف مطهّر، ولكنه لا يتصل مباشرة بالغيب، وليس معصوماً من الخطأ، وليس أفضل من الأنبياء، ولا من الصحابة.

أما النمط الثاني، فهو المتخيّل الصوفي غير السنّي، وهو متخيّل خلّاق متحرّر من أيّ رقيب غارق في الحلم. وقد أشاح هذا المتخيّل عن صورة وليّ متألّه عليم بالغيب، فاعل في الكون بلا حدود ولا قيود، حسبه أن يهمّ بالشيء حتى يكون. أمّا النتيجة الثالثة، فتتمثل في أن وطأة الواقع ومشكلاته هي التي أدّت بالطيف الصوفي إلى البحث عن حلول جديدة، من خلال خلق شخصية باهرة راهن عليها المتصوّفة لتحقيق جملة من الرهانات العاجلة والآجلة في الدين والسلطة والمجتمع.

ورأى أنه على الصعيد الديني استهدفت نظريات الولاية، ولا سيّما السنيّة، مقاومة البدع الناجمة، بشكل خاصّ، عن شيوع عقائد الاتحاد والحلول ووحدة الوجود والعشق الإلهي، التي رأى فيها أهل السنة انتهاكاً لعقيدة التوحيد والتنزيه، ولكنّ جهودهم لم تقتصر على النقض؛ بل امتدّت إلى البناء، وذلك من خلال السعي إلى رسم معالم ولاية تصالح بين مقتضيات المنظومة العقدية السنيّة والنفحات الروحية للإسلام الصوفي المعتدل، ولا سيّما في نمط التديّن وفي منظومة الأخلاق وآداب السلوك. وعلى خلاف التّصوّف السنّي، انبرى رموز التصوف الاتحادي والحلولي والوحدوي يشيّدون نظرياتهم معوّلين على مفاهيم جديدة لعقيدة التوحيد مفادها لا مشهود إلا الله تارةً، ولا موجود إلا الله تارةً أخرى. وهو توحيد يقرُّ مبدأ الاتصال بين الناسوت واللاهوت، على عكس التوحيد السنّي الرسمي القائم على الإسراف في المفارقة بين الله والإنسان.

وشدد المكشر إلى إنّ المتصوّفة، الذين راهنوا من خلال نظرية الولاية على إلغاء الوسائط بين العبد وربّه، يؤكدون الفعالية الإلهية، وينسفون القول بالانفصال المطلق بين الله والعالم؛ إذ يرون في عقيدة الفصل تجريداً للألوهية من قدرتها المطلقة على التجلّي والاتصال وتدبير شؤون العالم والإنسان. وممّا لا شكّ فيه أنّ التصوّف، بمختلف مشاربه، قد استثمر التنظير للولاية في تجديد الإسلام وفي تعميق منابع روحانيته، تلك المنابع التي عمل على تجفيفها الإسلام الفقهي والكلامي على حدٍّ سواء.

وقال إنّ كل الدلائل تُشير إلى أن من أبعد مرامي العارفين الخروج من حالة التهميش التي عانوا منها كثيراً، وقد بلغت أوج قمتها بتصفية العديد من الرموز الصوفية. ولعلّ أهم رهان تشوفوا إليه كان تصفية الحساب مع الفقهاء والمتكلّمين، الذين كانوا يحظون بمنزلة جليلة لدى الخاصّة والعامّة. فقد استولى هؤلاء العلماء على الحقيقة الدينية واحتكروها دون غيرهم. وعملوا، بالتحالف مع السلطة السياسية، على تهميش الصوفية؛ بل إقصائهم بشتى الطرق والوسائل المشروعة وغير المشروعة. وقد كان الردّ الصوفي معرفياً أساساً؛ إذ عملوا على سحب البساط من تحت أقدام خصومهم، وذلك بإظهار أن علم الأولياء يقيني؛ لأنه ثمرة تلقٍّ كشفي من المعين الإلهي، على عكس علم الفقهاء الذي لا يعدو أن يكون علماً ظنيّاً منقولاً ميتاً عن ميت. ولهذا وجد الأولياء أنفسهم الجهة الأصلح في امتلاك الحقيقة الدينية وصلاحية النطق بها.

وخلص المكشر إلى أن اعتقاد العديد من الصوفيين أن الولاية باطن النبوّة، والولي وريث النبي، وهو اعتقاد يستبطن رغبةً جامحةً في أن يكون الولي الجهة التي يُعرف من جانبها الدين بالضرورة؛ الدين في بُعده الروحي الباطني خصوصاً، ومن ثمّ يتحرر المسلم من الوصفات الفقهية والكلامية الجاهزة، في نمط التّديّن وفي منظومة الأحكام والسلوك. وبالإضافة إلى الوظيفة الدينية اضطلعت الولاية بمهمّة سياسية، على عكس ما يعتقد الكثير، فقد أبان البحث عمّا كان للولي الصوفي من مطامح سياسية، بعضها معلن وبعضها مضمر. ولكن لا بدّ من التفريق بين اتجاهين مختلفين: اتجاه التّصوّف السنّي من ناحية، واتجاه التصوف غير السنّي من ناحية ثانية. لم تكن للولي السني مطامح ولا إسهامات سياسية تُذكر؛ فهو يكتفي، في الأغلب، بالوظيفة الدعوية الدينية والأخلاقية. أمّا الشأن السياسي، فليس من شواغله المركزية؛ ولهذا العزوف سبب ذاتيّ وآخر موضوعي؛ يتمثل في:

السبب الأول في اعتبار معظم رموز التصوّف السنّي الولاية درجةً دينيةً في المقام الأول، وشأناً فردياً خاصّاً ينبغي كتمانه؛ لهذا “قنعوا بعبادة الله وحبّه، غير ناظرين إلى واجباتهم حيال خلقه.

أمّا السبب الموضوعي، فهو أنّ معظم أعلام التصوّف السنّي قد عاشوا في ظلّ خلافة سنيّة، فكانوا من أتباعها وأنصارها؛ لذلك كانوا يلازمون الصمت حيال الحياة السياسية، وإذا قدّر لأحدهم أن يبدي رأياً سياسياً ما، فإنّ ما يصدر عنه لا يكون إلا من باب مناصحة السلطان وتبصيره.

أمّا الولي في باقي الاتّجاهات الصّوفيّة، ولا سيّما تلك التي كانت خارج السلطة، أو ضحية من ضحاياها، فقد كان راغباً في أن يكون طرفاً في المشهد السياسي؛ بل إنّ منهم من كان متيّماً بالسياسة إلى حدّ الهوس. صحيح أن المشروع السياسي، الذي بشّر به بعض أولياء الصوفية، لم يكن سوى مشروع غارق في المثالية بعيد عن التحقيق، لكن سمة المثالية لا تقلّل من أهمية ذلك الطموح، ولا سيّما أنّه أدى دوراً تحريضياً في التعبير عن حلم المتصوّف المسلم ببناء عالم أفضل على أنقاض واقع موبوء كان يحياه، فيحسّ أنه ضحية من ضحاياه، وأنه غريب داخله، سجين بين أسواره، فينتابه شعور حادّ بالقلق والضيق، ويغمره الحلم بإقامة “المدينة الفاضلة”؛ مدينة الأولياء، مدينة الأرواح، مدينة الحق والعدل والفضيلة.

ميدل إيست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى