الشرق يبدأ من القاهرة

 

ينتمي هذا الكتاب “الشرق يبدأ من القاهرة” إلى أدب الرحلات حيث يأخذنا فيه مؤلِفه الكولومبي إكتور آباد فاسيولينسي ليس فقط في رحلة عبر المكان، وهو في هذه الحالة مصر وتحديدًا القاهرة، بل أيضًا عبر نهر الزمان ليُحدثنا فيه عن ماضيها وحاضرها وتجربته الشخصية فيها.

كانت هذه الفكرة أول ما جذب المترجم محمد الفولي كقارئ وبعدها كمترجم: كيف ترانا عينا أحد أهم أدباء كولومبيا وأميركا اللاتينية المعاصرين؟ وقال في تقديمه للكتاب “كثيرة هي كُتب الرحالة التي تناولت مصر الماضي والحاضر وأغلبها – سواء تُرجمت للعربية أم لا – كانت بأقلام أوروبية تعاملت في أغلب الأحوال بنظرة الرجل الأبيض المتعالية لما يراه من غرائبيات الشرق، لكن هذا الكتاب له ميزة مختلفة وهو أن هذه هي المرة الأولى التي يصل فيها إلى يد القارئ عمل من هذه الفئة صِيغ بقلم أحد أبناء أميركا الجنوبية؛ ذلك المكان الذي رغمًا عن بعده يحمل داخل مجتمعه خصائص مشتركة كثيرة مع نظيره المصري“.

وأضاف أن إكتور آباد لم يكن خلال شهرين تقريبًا قضاهما في مصر هما ديسمبر/كانون الأول 1999 ويناير/كانون الثاني 2000 مسافرًا عاديًا داخل حيزي الزمان والمكان، فعبر قراءته تجهز جيدًا للرحلة – أو هكذا ظن – وعلى أرض الواقع وطوال رحلته بات يحدثنا عن الصدمة والخلاف بين “مصر الكتب ومصر الواقع” أو “قاهرة المُخيلة وقاهرة الكُتب”.

كان جريئًا في تجاربه وزار أماكن ربما لم تطأها أقدام بعض المصريين، مثل سوق الجمال القديم بإمبابة أو مساكن الفقراء في المقابر ضمن مغامرات أخرى. شاركه في هذه الرحلة زوجته آنا وأخته كلارا، واللتان سيشير إليهما طوال الكتاب بوصف “زوجتيّ”، في حالة غريبة خلقها داخل النسيج الأدبي للعمل لتعكس فكرة الأحكام المسبقة الموجودة دائمًا لدى أغلب المسافرين عن مسألة تعدد الزوجات في المجتمعات المسلمة وبالأخص ذلك المصري، الذي أخضعه عبر رحلته وتجاربه على المقاهي وفي الشوارع والمطاعم الفخمة والمتوسطة ومع النصابين والتجار بل وأحيانًا اللصوص لتشريح حالفه فيه التوفيق بصورة كبيرة. لكل هذه الأسباب أغرمت بالكتاب وشرعت في ترجمته دون الاتفاق مع ناشر أو التواصل حتى مع وكلاء المؤلف، الذي حصل مؤخرًا على الجنسية الإسبانية، وكان أكثر ما جعلني أتمسك بإنهاء هذه المهمة هو أن الكاتب نفسه أبدى في أحد الفصول قناعة شبه تامة بأن هذا الكتاب لن تصدر له ترجمة بالعربية، لذا أخذت على عاتقي خوض هذا التحدي متعدد الأوجه”.

مدخل الرحلة

أحيانًا، في قصص ألف ليلة وليلة الطويلة، تأسر فكرة زيارة بلدان بعيدة لب أحد الأشخاص، لذا يجهز خيامه ويحمِّل جماله وبغاله ويترك وزيرًا مسئولًا عن شئونه ثم يجمع القافلة ويبدأ رحلته. دائمًا ما يكون لديه ذلك الشك: هل يأخذ زوجاته معه ويعرضهن لخطر الطريق أم يتركهن في عناية الخصيان والمخادعين، تحت رحمة رجال ليسوا أقل خطرًا؟ يوجد ثمة حل وهو اصطحاب زوجتين وترك الأخريين من الأربعة اللائي سمح لنا بهن العلي القدير، فكما تقول الحكمة السامية: لا تضع البيض كله في سلة واحدة.

نحن أيضًا نحتضن حلم تغيير حياتنا، أو على الأقل حشوها بمادة أقل تَفَتُتًا من حطام الأيام، عبر الرحيل من هنا. نشعر بحنين غريب نحو ما لم تره أعيننا: حنين نحو كل الأماكن باستثناء مكاننا، كما قال شيزاري بافيزي في مرة: “المرء يحتاج إلى وطن، حتى ولو كان فقط ليرحل عنه”. هذه هي المشاعر الموجودة هنا. رغبة في الرحيل. رغبة في الاستراحة من الجماعات المتمردة وشبه العسكرية ورغبة في التوقف عن مشاهدة حماقات الحكومة ومجازر الأشرار وحالات الاختطاف والاعتداءات والسرقة واختلاس أموال البؤساء. نرغب في الرحيل “حتى ولو لوقت قصير” وفي النهاية نرحل بـ”عقل مشتعل وقلب مليء بالأحقاد والرغبات المُرة و.. سعداء بالهروب من وطن سيء السمعة”.

لكن – وقبل أي شيء – إلى أي مكان تتوجه هذه الخطوات؟ نحو الغرب أم الشرق؟ من بين كل المُسَلمات التي تقسّم العالم لا يزال يوجد حائط خيالي لم يسقط بعد: الشرق والغرب. ولأنني أظنّ أننا من الغرب “غربية هي اللغة التي أكتبها والثقافة التي استعمرت هذه البقعة من الأميركتين. غرناطة الجديدة أو الأرض التي أصبحت اليوم كولومبيا”، فمن الأفضل إذن السفر في رحلة نحو ما يقال عنه إنه مختلف. المشكلة هي التمكن من معرفة أين ينتهي الغربي الذي يخصّنا، وأين يبدأ ذلك الشرقي البعيد. المسافر الفضولي جوستاف فلوبير أخبرنا منذ حوالي قرنين: “الشرق يبدأ في القاهرة”. وبما أننا لا نستخدم الجياد أو الجمال أو نسافر فوق الحمير أو نبحر على هوى الأمواج،  قررنا شراء رحلة نحو للقاهرة.

يبدأ السفر قبل الرحيل بوقت طويل: إنها مخيّلة الرحلة. ما نقرأه وما نتخيله. أول ما قرأته كانت الصفحات التي يقصّ فيها فلوبير رحلته إلى مصر في خطاب لوالدته في 14 ديسمبر 1849 في بداية رحلة ستستغرق أكثر من عام. يقصّ فلوبير أنه قرر ألّا يهذب لحيته: “تنمو لحيتي مثل حشائش السافانا في الأميركتين”. لكي أوفّر الكثير من الوقت ولكي أبدو مثل الصورة النمطية الموجودة لديّ عن الشرقيين، قررت تقليد فلوبير. لو لم أكن لأتمكن من القيام عبر الكتابة، فعلى الأقل سأقلده في تصرفه، لذا قررت ترك لحيتي تنمو. بمرور الأيام بات التغيير على وجهي ملحوظًا وبكل تأكيد إذا ما تغير الوجه فهذا يعني أن الرحلة بدأت. توقفت عن رؤية صديق لفترة ثم اتفقنا على أن نتقابل في حانة. يبدو أنه لم يرني حينما وصل حيث مرّ بنظراته من أمامي. في النهاية ركّز بصره ونظر إلي بشك ثم قال مندهشًا “لم أعرفك باللحية. تبدو أكبر سنًا!”. هذا هو ما يدور حوله الأمر. ألا يتعرف عليك أحد. لهذا السبب توجد الرحلات.

عقب عودته بعد 20 عشرين عامًا من معارك في الأسرة والساحات وتأثير ذلك التحول الرهيب الذي يفرضه الزمن علينا، لم يتعرف  أحد على أوديسيوس، سوى الكلب الأعمى أرجوس “عمر الرائحة أطول من عمر قسمات الوجه” والمرضعة العجوز يوريكليا التي رأت الندبة التي تركها خنزير جبلي محفورة في ساقه إبان شبابه.

يتضمن السفر حلمًا مزدوجًا: ألا يعرفونك حينما تذهب، وألا يتعرفون عليك حينما تعود. أن تصبح بلا اسم. تسافر غامضًا لتصبح شخصا آخر، وتترك خلفك ما كُنتهُ. كفافيس، الشاعر اليوناني والمصري المولود في الإسكندرية والمسافر بين لندن وأثينا والقاهرة حذرنا من أن حلم السفر الذي يغيرك خادع. “لن تجد أراض أخرى أو بحورًا أخرى؛ ستصحبك المدينة أينما ذهبت”، ولكن هذا درس لا تتعلمه. هذا درس منسي. سأعود إلى ميديين حتى ولو سافرت معها وسأكون كما أنا تقريبا، ولكن على الأقل سأكون قد سافرت وأدركت، لأن ذلك الذي لا يذهب لا يرى شيئًا من الأساس”.

ميدل إيست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى