العنف يغير كل شيء

 

رغم أن العالم لا يسكنه الأشرار فقط، ينتشر العنف في كل مكان، يتضارب الناس ويتقاتلون مبررين ذلك بدافع الطاعة، أو لكونهم مجبرين، أو بحكم العادة، أو بدافع السعادة، أو لأنهم تتعين عليهم مواجهة من يمارس العنف، فمن الواضح أن الأمر لا يتعلق بالنوايا والقناعات بل بالإمكانات والمواقف الخاصة بشأن ما إذا كان الإنسان يمارس العنف وكيفية ذلك، إن موطن العنف هو مكان آخر يختلف عن موطن السلام، من يطأه يتجاوز بلدًا غريبًا يصبح فيه شخصًا آخر، فالعنف لا يدع أحدًا دون أن يمسه، ولا أحد يستطيع الفرار من قهره، إنه ديناميكي ويغير كل العلاقات الاجتماعية وفق شروطه. انطلاقا من هذه الرؤية يأتي كتاب يورج بابروفسكي “العنف والإنسان.. كيف يؤثر العنف على البشرِ ويعيد تشكيل حيواتهِم؟” كاشفا ومحللا لكثير من جرائم الحرب التي هي ذروة العنف وتأثيراتها.

يوضح بابروفسكي في كتابه الذي ترجمته د.علا عادل وصدر عن دار صفصافة أخيرا أنه قضى “أكثر من خمسة عشر عامًا منشغلًا بفظائع الحكم الستاليني العنيف، وقد علمتني هذه التجربة أن البشر قادرون على كل شيء عندما يتحركون في نطاق لا يكون العنف فيه ممنوعًا بل متاحًا، كما أقنعتني التجربة أن الإنسان لا يعرف شيئًا عن تأثير العنف إذا لم يدركه على أنه حدث دموي، والقارئ لا ينبغي أن ينتابه الامتعاض بل يشعر بالغثيان حتى يفهم أن العنف ليس حدثًا مجردًا كلينيكيًا نظيفًا، بل هو يتسبب في سقوط مصابين وقتلى وفي ألم ودماء ودموع، من لا يرغب في الكتابة عن العنف ينبغي أن يصمت بشأن ما يخصه. لقد قضيتُ سنواتٍ كثيرةً من حياتي أبحث عن إجابة سؤال ما يفعله الناس في العنف؟ وكيف يشكل العنف الناس؟ أيًا كان ما يحدث فالعنف دائمًا ما يصبح مملكة “الظلام غير القابل للاختراق”، والتي نفتقدها لكننا لا نستطيع أن نفهمها بالكامل”.

ويؤكد أن العنف يغير كل شيء، ومن يتعرض له يصبح شخصًا آخر، فمعايشة العنف شأنها شأن رحلة إلى عالم جديد، حيث تسود قواعد أخرى ويعيش أشخاص آخرون، في هذا العالم تحيد المعايير عما هو طبيعى، فما يمكن أن يعتبره الناس بديهيًا، يبدو في ضوء العنف غريبًا بطريقة نادرة، وما هو غير معتاد يصبح من شؤون الحياة اليومية، ما أن تطأ قدمك مواطن العنف حتى تعرف أنه لم يعد أي شيء كما كان.

ويستشهد بابروفسكي بما كتب الجندي ويلي ريس حيث يقول “إنه لم يستطع مطلقًا نسيان وحشية العنف، والتي كان شاهدًا عليها، فقد نظر إلى قاع الروح الإنسانية ولمس فظائع الحرب بكل خلجاته، وكان قد أتى إلى روسيا من مملكة السلام والرخاء، ليغادر البلاد ثانية بوصفه موصومًا”.

ويعلق “ريس، المهووس بالكتب، مرهف الحس، أصبح شخصًا آخر، منذ أن رأى الجحيم، وقتل نساء وأطفالًا، وأمطر جنود الأعداء بوابل رصاص من سلاحه الآلي، لقد قتل بشكل آلي ودون أدنى تعاطف، كي يتمكن من النجاة من الحرب وكي ينقذ حياته، ولكنه باح لدفتر مذكراته مرة قائلاً “إلا أنني لم أجد الهدوء ثانية أبدًا، ولم أجد طريق العودة لذاتي مرة أخرى، إذ ظلت الذكريات تطاردني مثل اللعنات، حتى أنني كنت أعايش فظائع حرب الشتاء مرارًا وتكرارًا، وأسمع دوي القذائف وصراخ الجرحى، ورأيت الجنود يتدافعون ويتهاوون ويلقون حتفهم، ورأيت نفسي مثل شخص غريب في قدري على هامش بلد المجهول”.

ويضيف بابروفسكي “كان هذا أيضًا لسان حال الجنود البريطانيين الذين لم يتمكنوا مطلقًا من نسيان ما رأوه في بيرجن بيلزن، وحاولوا أن يفهموا ما دفع رجال مثل جوزيف كرامر لارتكاب فظائع لا يمكن تبريرها بأي حال من الأحوال، لم يستطع هؤلاء الذين رأوا الحرب ولمسوا الموت فهم ذلك، ربما كان بالإمكان فهم تحول آمر معسكر اعتقال أوشفيتس- بيركناو، وبيرجن بيلزن ورئيس لبيبريا مجرم سادي أو وحش، ولكنهم لم ينطبق عليهم مطلقًا ما يعتبر في العادة مبررًا لنشأة العنف، إذ لم يكن كل من تايلور وكرامر مرضى نفسيين، لم يكن أي منهما عرضة في الماضي لاضطهاد أو من ضحايا العنف، ولم يحدث – ذات مرة – أن أبدى أي منهما اهتمامًا ببرامج سياسية وأيديولوجيات، ورغم ذلك فقد اعتبرا تلك الأمور التي رأى فيها الجنود أنفسهم خرقًا للمدنية والتحضر أمورًا طبيعية، كيف استطاع كرامر وتايلور- اللذان أمرا بقتل عشرات الآلاف من البشر- أن يعتقدا أنهما تعرضا للظلم حين تم إلقاء القبض عليهما، وأنهما يجب أن يُخلى سبيلهما بمجرد استدراك الخطأ؟! ألم يدركا ما كان يدور حولهما؟! تبدو الحالة من الوهلة الأولى واضحة، فالجناة لم يروا ما رآه الآخرون، ولم يعتبروا هذا غير معتاد، لا سيما ضرب البشر ورميهم بالرصاص وإلقاء جثامينهم مثل القُمام، ولكن أنّى لنا أن نفهم أن هذين الرجلين لم يشعرا بأي شيء؟ أما نحن فقد وقفنا مشدوهين بمجرد أن سمعنا عن أفعالهم وجرائمهم”.

ويشير إلى أنه بعد الفِعلة تأتي ساعة التبرير، فالجُناة أنفسهم يوارون أصل العنف وفحواه؛ لأنهم يسوقون دومًا أسبابًا لجرائمهم، تسمح لهم بأن يضعوا أفعالهم ضمن منطق سلوك المجتمع المسالم؛ فعندما تنتهي المواجهات الجسدية وحالات الاغتصاب والاضطهاد والمذابح والحروب ويُحظر العنف ثانية، فإن الدافع الوحيد الذي يمكن سرده حينها هو فقدان الجاني والضحية عقليهما، وهو ما يجعل العنف يبدو كاضطراب عابر أو مؤقت، فالإنسان يستعين بالإشارات إلى الدوافع للضروريات والحتميات بغرض تجاوز الإثارة والبلبلة التي أطلقت للعنف العنان، إذ يحيل الجناة المسألة دائمًا إلى حالة طوارئ إصدار الأوامر، إلى مقتضيات حتمية أو إلى التوابع القاتلة التي كانت ستطرأ لو كانوا عارضوا أوامر القتل، بعضهم يستعين بالقيم العليا ومفاهيم الشرف، وبعضهم يصرح بأن شرور الضحايا لم تترك لهم الخيار، فيتعين عليهم أن يصبغوا ما ارتكبوه بحق ضحاياهم بالعقلانية أمام أنفسهم وأمام الآخرين، وإذا ما تعرضوا للمساءلة بعد انتهاء العنف، فإنهم يحاولون أن يسوقوا أسبابًا مفهومة حتى يدرك الجميع لماذا لم يتمكنوا من التصرف بشكل مغاير، وما أن ينتهي الاعتداء الوحشي ويعم السلام لا يمكن وصف العنف إلا بأنه استثناء للقاعدة.

ويتابع بابروفسكي “من يُقر أمام المحكمة بأنه أمر بقتل أناس بدافع اللامبالاة، أو لغرضٍ ما أو انطلاقًا من دوافع متدنية أو حتى فقط لرغبته في ذلك فهو يدين نفسه لا محالة، لذا لطالما قدم أعوان الديكتاتوريين والطغاة بعد انتهاء أعمال الاعتداءات الوحشية مبررات لإثبات أن إرشاداتهم وأوامرهم كانت تخدم أغراضًا مفهومة، حتى أن مساعدي هتلر أشاروا أمام محكمة نورينبرج إلى أوامر حتمية اضطروا لتنفيذها ولم يكن لهم حيلة في ذلك، حيث صاح القائد السابق للقيادة العليا لقوات الدفاع فيلهيلم كاتيل أمام المحكمة، قائلاً: “ماذا كان بإمكاني أن أفعل؟ فالضابط لا يستطيع مناطحة قائده، الآمر الأعلى، ومعارضته! ليس بوسعنا سوى تلقي الأوامر وطاعتها”، أما أدولف إيشمان، منظم عمليات قتل اليهود، فقد أعلن أمام قضاته في القدس بأنه لم يكن سوى ترس في محرك كبير، لا حول له ولا قوة، وليست باستطاعته مقاومة الماكينة التي أجبرته على أداء العمل الكبير المتمثل في القتل الجماعي، ورغم أنه ليس قاسيًا، بل مطيع، وأنه موظف وخادم مخلص لسادته، يفعل ما يؤمر به، وقد سقطت هانا أرندت في فخ استراتيجية التبرير هذه؛ لأنها صدقت إيشمان حين قال إن تنفيذ الأوامر كان مبدأ وقاعدة لتصرفاته.

ويرى بابروفسكي أن العنف يتحول إلى سلطة ما إن يُمنَح مزيدًا من الوقت، وتتضح تأثيراته في الوقت الذي يقع قبله وبعده، فيتحول من شهدوا العنف بفعل خوفهم إلى دُمَىً تحت تصرف السلطة؛ لأنهم لا يرغبون في أن يصيبهم ما ألمَّ بغيرهم، إلا أن العنف، الذي يسعى لإرساء السلطة، يحتاج إلى فترات استراحة، فالتهديدات تصبح واهية عندما لا يصبح لدى الأشخاص المحكوم عليهم بالموت أي شيء يخسرونه سوى حياتهم، والعنف الذي لا يكون أكثر من مجرد صدفة وقدر، لا يؤسس سلطة راسخة، إذ ليس بمقدور صاحب السلطة أن يعرف ما إذا كان بوسعه الاطمئنان لاستقرار سلطته، وما إذا كانت الرعية المقموعة ستستمر في الخضوع عندما لا يوجد من يستخدم العنف ضدها، إلا بعد توقف هذا العنف، فهل الخوف من عودة العنف شديد بما يكفي ليمنع الرعية من المقاومة؟ يعرف أصحاب السلطة الإجابة على هذا السؤال فقط عندما يراقبون ما يحدث بعد انتهاء العنف الذي مارسوه على الآخرين، فلن يكون بمقدور الأشخاص، الذين شهدوا الترويع، أن يفعلوا أي شيء آخر سوى التفكير في العنف الذي عانوا منه وأن يتأقلموا على عودته، ولطالما أدرك الطغاة حتمية استمرار تهديداتهم بالعنف إذا أرادوا إرساء السلطة؛ لأن سلطتهم تستند إلى قدرتهم المبرهَنَة على إلحاق الأذى والقتل، وأيضًا على رغبتهم واستعدادهم وقدرتهم على تكرار ذلك مرات ومرات، فما إن يُظهروا ضعفًا، حتى ينتهي أمر سلطتهم”.

ويوضح “لكن من أين لصاحب السلطة أن يعرف ما إذا كان رعاياه وحاشيته يطيعونه حقًّا أم يتظاهرون بذلك فقط؟ يقع الطاغية في مأزق؛ لأنه لا يعرف إلا ما يرغب بسماعه لا أكثر، ولا يُنقَل له ما قد يفيده، فيتحدث الجميع بما يرغب الحاكم في سماعه، إلا أنه لا يعرف ما الذي يُخفيه هؤلاء المطيعون في جعبتهم حقًّا، يتحول إلى أسير للسلطة ويتملكه جنون الارتياب، فتحيط الأسوار قصره وتحرسه شرطة سرية، لكنه مع ذلك غير قادر حتى على الثقة فيهم، ولهذا يستبدلهم من وقت لآخر متحججًا بذرائع واهية، يضطر إلى خلق نطاق يتمكن من معاينته ويراقب فيه كل ما يحدث من وراء ظهره، وينتابه الخوف من رفاقه وحاشيته، والمستجْدين الذين يتلمقونه، إلا أنهم قد يقتلونه أيضًا، الخطر مُحدِّق به، لهذا يتملكه وهم الاضطهاد، وينقل إلى محيطه عدوى جنون الارتياب التي تلقي بظلالها على الجميع، فالحاكم يرى أعداء حيثما نظر، وينتابه الخوف حتى من الأصدقاء والأقارب، لذلك يتلاعب بهم، فيأتمن أحدهم على سر ويخفيه عن الآخر، ثم يراقب ما إذا كان سيخبر الآخر بما عرف، ويعمَدُ إلى لغة العنف في كل مكان كي يتجنب وقوع ما يخشاه، يقول كانيتي “وبذلك يبقى الحاكم مطلعًا بشكل دائم على مدى موثوقية وأمانة الأوعية التي يصب فيها أسراره، فيكون بوسعه تقدير أي وعاء أصبح ممتلئًا عن آخره لدرجة أنه قد ينضح بما فيه، هو وحده من يمتلك مفتاح صندوق نظام الأسرار المتداخل، لذلك يشعر بالخطر إذا ائتمن شخص آخر على المفتاح بشكل كلي”.

ميدل إيست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى