كتب

“الكرملي” الكتابة عن التاريخ الفلسطيني تبقى سجلًّا مفتوحًا

 

يواصل سميح مسعود تأثيث الذاكرة بأعماله الأدبية المتنوعة التي بدأها بثلاثية “حيفا برقة.. البحث عن الجذور”، مرورا بـ”على دروب الأندلس”، و”تطوان وحكايا أخرى”، ورواية “هوشيلاجا”، وسيرة المناضل الأممي “أنطونيو التلحمي رفيق تشي جيفارا”، وصولًا إلى رواية “الكرملي” الصادرة عن “الآن ناشرون وموزعون” هذا العام (2021).

وستبقى الكتابة عن التاريخ الفلسطيني سجلًّا مفتوحًا، لأن لكل حياة قيمتها، ولكل حدث أهميته، وكل عمل يُكتب في هذا المجال يسهم في استكمال الصورة عن المرحلة التي مرّت من تاريخ فلسطين بكل ألوانها في رواية “الكرملي” التي اختار صاحبها ابن حيفا المدينة العريقة، المتقدمة ثقافيًّا وحضاريا، شخصيات تنتمي إلى المدينة، وتعكس تطورها الثقافي والاجتماعي والسياسي، تبرز أسماء مثل: نجيب نصار الكاتب والسياسي القادم من لبنان،  مؤسس جريدة “الكرمل”، ورشيد الكرملي ابن حيفا ابن التاجر المعروف سليم الكرملي، ذو المواهب الأدبية، وصاحب الروح الوطنية، وتوفيق أبو غيدا، المقاول المثقف ذو النزعة الوطنية، والشيخ مناور الزعبي، ابن مدينة الرمثا الأردنية، الوطني بالفطرة، وصاحب النزعة القومية.

الرواية تنتهي بلقاءات بين الشيخ مناور من جهة وتوفيق ورشيد من جهة أخرى، يجري فيها تقييم تجربة الحرب، ذلك التقييم الذي يفضي إلى خروجهم من” الظلام الحالك الذي حدّثهم عنه العمّ توفيق إلى ظلام أقلّ منه”

وهناك شخصيات ثانوية مهمة مثل ظاهر العمر الزيداني والي حيفا الذي حوّلها من قرية للصيادين في موقع تل السمك إلى مدينة “يتمطى حولها سور عال لحمايتها”، والذي كان ضحية من ضحايا أحمد باشا الجزار والي عكا المستبد، والملك فيصل بن الحسين، الذي استقبلته حيفا بعد أن خذلته بريطانيا، وأخرجه الفرنسيون من دمشق، والذي يظهر في الرواية ملكا مثقفا، عالما بالتاريخ، سياسيا بارعا، مدافعا عن حق العرب بالنهضة والوحدة، ولورانس، الذي يظهر في خلفية الأحداث، والمطران جريجوريوس حجار، مطران العرب القادم من لبنان، والسردار أيهم، الضابط التركي المعارض لنظام السلطنة، والمفتي مراد المثقف، المحب للأدب، والشاعر المحامي وديع البستاني، والشاعر سليمان أيوب، وأم رشيد، ووالده، وسعاد، وراغب رئيس بلدية القدس، والمفتي محمد أمين، والقائد أبوكمال، والشهيد محمد الحنيطي، وغيرهم.

وكما هو واضح فإن الرواية تمزج بين الشخصيات التاريخية الحقيقية والشخصيات المتخيلة. وهذا، إلى جانب شيء من التوثيق التاريخي المتعلق بعدد من الأمكنة، والأحداث التاريخية مثل بناء خط سكة حديد حيفا درعا، وحيفا القدس، والمؤتمر العربي الأول، واجتماع الملك فيصل بوجهاء العرب في حيفا، والهيئة العربية العليا، والإضراب الفلسطيني العام، والثورة الفلسطينية الأولى، والحرب العربية الإسرائيلية الأولى، يضفي على الرواية بعدا توثيقيا، ويجعلها تتراوح ما بين الرواية التاريخية والرواية الدرامية.

يستمد الكاتب سميح مسعود موضوعات أعماله مما عايشه شخصيًّا، ومن قراءاته المتعمقة بالتاريخ، وأبحاثة في الذاكرة الحيّة، وهذا ما يعطي أعماله، والأحداث التي يقدمها مصداقية خاصة؛ فهو يعرف موضوعه بشكل جيد، ويقدم صورة قلمية لمدينة حيفا تؤكد عروبتها وحضارتها قبل أن يأتي الغازي الصهيوني.

تدور أحداث الرواية في مرحلة زمنية دقيقة وحاسمة من تاريخ المنطقة بشكل عام وتاريخ فلسطين بشكل خاص، وهي بداية القرن الماضي التي اتسمت بضعف الدولة العثمانية التي كانت تحكم المنطقة العربية، وبتفككها وصعود التيار القومي الشوفيني التركي ممثلا بجمعية تركيا الفتاة، الذي بدأ يسيء للمكون غير التركي في الدولة العثمانية، وتجلى ذلك في المنطقة العربية بحملة القمع لطموحات الأحرار العرب، وإعدام العديد منهم في بلاد الشام، الأمر الذي استدعى ظهور الجمعية العربية الفتاة ردًّا على الشوفينية التركية، وتلبيةً لطموح العرب بالاستقلال، الجمعية التي كان أحد أعضائها ومؤسسيها فيصل بن الحسين. هذه المرحلة شهدت أحداثا تاريخية واجتماعية مهمة، منها بناء خط سكة حديد الحجاز، وخط سكة حديد حيفا درعا، الخطَّين اللذين كانت تسعى الدولة العثمانية من خلالهما إلى ربط أجزاء الإمبراطورية بعضها ببعض.

وقد وعدت سكة الحديد بتطورات اجتماعية واقتصادية عكست الرواية جزءًا منها، مثل زيادة التبادل التجاري بين فلسطين والأردن، خاصة في مجال استيراد الحبوب من منطقة حوران، وزادت من التواصل الاجتماعي بين الحواضر الأردنية والحواضر الفلسطينية، وبالتالي التقارب على المستويين السياسي، والفكري.

ومن الأحداث المهمة في تلك المرحلة التي مرّت عليها الرواية وتركت صدى في المنطقة حرب البلقان التي استفزت أحلام العرب بالاستقلال وتحقيق الوحدة العربية من تطوان إلى بغداد. والحرب العالمية الأولى، ودخول العرب بقيادة الشريف الحسين بن علي في تحالف مع الإنجليز الذين كانوا يسعون إلى القضاء على الدولة العثمانية وتقاسم تركتها مع الدولة الاستعمارية الكبرى الأخرى؛ فرنسا، ويتآمرون على الشعوب العربية وطموحاتها، فأبرموا مع فرنسا الاتفاقية المشؤومة لتقاسم البلاد العربية في ما بينهما المعروفة باتفاقية سايكس- بيكو، وبعدها أصدروا الوعد المشؤوم بتقديم فلسطين ليهود العالم ليقيموا على أرضها دولة يهودية، ومارسوا فعلا خبيثا في الحرب، إذ دمروا خطوط سكة الحديد لإبقاء البلاد العربية ممزقة، وتخلّوا عن دعم الشريف حسين ونجله فيصل لإقامة دولة عربية واحدة في المشرق العربي.

هذه هي الخلفية التاريخية لأحداث الرواية، وقد كانت تلك الأحداث هي ما أعطى الرواية التوتر المطلوب. فتفجير خط سكة حديد حيفا درعا أعاد الناس لاستخدام الجمال في التجارة، وطرد الملك فيصل من دمشق، وتحدي القائد الفرنسي غورو صلاح الدين في ضريحه في دمشق، أعادا النضال القومي إلى المربع الأول وإلى جذوته الأولى، والحياة الرتيبة الهانئة آلت إلى توتر وصراع وتزايد في الهجرة الصهيونية إلى فلسطين، وانطلاق الثورة الفلسطينية إثر إعلان وعد بلفور.

يقول الكاتب: “كانت فلسطين كلّها في تلك المرحلة كبيت النار، ترتجّ مصابيحها مع الأحداث كارتجاج أشرعة سفينة تائهة في بحر الظلمات، وكان اختلاف الآراء حول طوق النجاة الأفضل يُفقِد السفينة القدرة على الصمود في وجه الأنواء”.

مع انطلاقة الثورة أيدتها جريدة “الكرمل”، وأصبحت شبه ناطقة باسمها، لكن مصير الجريدة كان يتماهى مع مصير الوطن، إذ إنها تصل إلى طريق مسدود، فيقرر صاحبها نجيب نصار وقفها، تماما كما وصلت الثورة إلى طريق مسدود وفشلت بسبب الصراع على الزعامة بين الزعامات الفلسطينية، وتنتصر المليشيات الصهيونية المدعومة من الإنجليز على الجيوش العربية غير الجاهزة للحرب، وتسقط حيفا بعد استشهاد القائد الأردني محمد الحنيطي الذي يبكيه كل أهل حيفا، ويتحول توفيق أبو غيدا ورشيد الكرملي إلى لاجئَيْن في مخيم في ضواحي دمشق.

تنتهي الرواية بلقاءات بين الشيخ مناور من جهة وتوفيق ورشيد من جهة أخرى، يجري فيها تقييم تجربة الحرب، ذلك التقييم الذي يفضي إلى خروجهم من” الظلام الحالك الذي حدّثهم عنه العمّ توفيق إلى ظلام أقلّ منه”.

يذكر أن سميح مسعود وُلد في حيفا عام 1938، ثمّ هُجِّر مع عائلته عام 1948 إلى بُرقة، وبعد أن أنهى دراسته الثانويّة، درس في يوغوسلافيا، وحصل في عام 1967 على درجة الدكتوراه في الاقتصاد من جامعة “بلغراد“.

وهذا الكتاب هو العاشر ضمن السلسلة التي يصدرها سميح مسعود في إطار تعاونه مع دار “الآن ناشرون وموزعون”، وسبقه: “متحف الذاكرة الحيفاوية” (2014)، “مقامات تراثية” تراث (2015)، “حيفا برقة.. البحث عن الجذور” (2017)، “تطوان وحكايا أخرى” (2018)، “على دروب الأندلس” (2019)، “حصاد السنين” (2018)، “أنطونيو التلحمي” (2020)، “على مدارج السحاب” (2020)، “هوشيلاجا” (2020).

وصدرت له كتب غيرها في الشعر والأدب، وعشرون كتابًا في مجال اختصاصه العلميّ في مختلَف المجالات الاقتصاديّة باللغتَين العربيّة والإنجليزيّة.

 

 

ميدل إيست أون لاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى