تاريخ إنساني لعوالم تحت أقدامنا

 

هناك افتتان تام بعلاقة الإنسان بالأماكن المظلمة في جوف الأرض في كتاب «تحت الأرض: تاريخ إنساني للعوالم تحت أقدامنا»، للمؤلف الإنجليزي ويل هنت الكتاب من نوع أدب المغامرات يسرد تاريخاً فريداً من نوعه لعالم آخر، لكن على خلاف قصص الخيال العلمي للكاتب الفرنسي جول فيرن، يدخل هنت عميقاً داخل الكهوف، ومحطات المترو المهملة والمخابئ النووية والسراديب والمجاري والمناجم والمقابر والخنادق والمدن القديمة المخفية، التي تطرز الكرة الأرضية في مواقع حضرية وريفية في 20 دولة حول العالم، مستكشفاً تاريخ تلك العوالم وعلومها وعمارتها والأساطير التي تدور من حولها، مستعيناً بعلماء ورجال قبائل ومغامرين وغيرهم.

من مترو أنفاق نيويورك إلى السراديب الباريسية ومن مناجم أكسيد الحديد الأسترالية إلى كهوف ما قبل التاريخ في البيرنيه الفرنسية، نصادف الكثير من الغرافيتي ورسومات الكهوف والمخلوقات الجوفية وبقايا الطقوس، لكن كتابه أكثر اهتماماً بجانب آخر، وهو فهم ما يتقاسمه البشر عبر ألوف السنين مع تلك العوالم الخفية، فبحث الكاتب عبر الوحول والظلمة والروائح الكريهة والأجواء الباردة، التي تقشعر لها يفيد المعلقون، هو بحث عن قصة الإنسانية المشتركة.

بدأ اهتمام هنت بتلك الأماكن عندما كان في سن المراهقة، فقد أخبره أستاذه عن وجود نفق للسكة الحديدية مهجور بالقرب من منزله في بروفيدانس في رود آيلاند، فتوجه مع بعض الأصدقاء للانغماس في غرابة العالم الجوفي، ومنذ ذلك الحين ألهمته التجربة، فباشر باستكشاف الأنفاق والمجاري في مدينة نيويورك، والسفر تحت المدن إلى تضاريس أقدم مثل المقابر والمخابئ النووية والكهوف المقدسة.

وخلال سفره في الأنفاق والمجاري التقى أولئك الذين يطلق عليهم «المستكشفون الحضريون»، بعضهم فنانون يبدعون تجاسيم فنية، وبعضهم الآخر مؤرخون يأخذون صوراً للأماكن المنسية. يقول إنهم فتحوا عينيه على طريقة جديدة تماماً في النظر إلى المدينة: المساحات السلبية، والتضاريس المخفية، والبنى التحتية المذهلة، وأنابيب الصرف الصحي وقنوات التصريف والطبقات الجيولوجية.

فعكف على تأليف دراسة بانورامية عن ارتباط الإنسان بجوف الأرض عبر التاريخ، وكيف تلك التجاويف المظلمة أثارت الخوف والذهول لديه عبر العصور، يكتب: «على مدى أكثر من عقد، نزلت سراديب الموتى الحجرية ومحطات المترو المهجورة والكهوف المقدسة والمخابئ النووية.

بدا الأمر لي أشبه بسعي لفهم سبب انشغالي، لكن مع كل زيارة كانت تظهر قصة تتصف بمزيد من العالمية. رأيت أننا، جميعنا، كل الجنس البشري، شعر دوماً بجاذب هادئ يشده إلى الأرض، وأننا مرتبطون بهذا المجال بقدر ما نحن مرتبطون بظلنا الخاص وفي سرد يمتد عبر قارات وعهود مختلفة، يتبع هنت مجموعة من الأشخاص الذين كرسوا أنفسهم لدراسة تلك العوالم الغامضة.

ويصف الطبيعة المزدوجة للأماكن، فمنذ ولادة الحضارة، كان جوف الأرض موضوعاً يثير الذهول والخوف، ورمزاً للولادة والموت، والحرمان والوفرة، وهو موطن نفاياتنا، لكنه أيضاً موطن كنوزنا، وهو أيضاً مكاناً للحصول على الوحي. ومع الوقت كانت تجربته مع تلك الأماكن تفقد خصوصيتها لتصبح أكثر شمولية.

يعتقد هنت أن أحد عوامل انجذابنا إلى الأماكن الجوفية هو صعوبة استنفاد معناها، ما يجعلها عرضة للتكهنات والارتباط الروحي. فالبشر وصلوا إلى أعمق بئر، بئر كولا في روسيا، الذي يقع قعره عند 12.2 كيلو متراً تحت سطح الأرض فقط، في القشرة الأرضية التي تقع ضمن نسبة 0.5% من إجمالي المسافة إلى نواة الأرض. إنها بيئة غامضة، وقد تكون حسب وصفه «الأكثر تجريداً في كوكبنا، أكثر مجازاً من الفضاء».

في قصص مغامراته، يخبرنا أنه خلال اجتيازه كامل الأميال الستة لمترو أنفاق باريس برفقة «المستكشفين الحضريين» خيمت المجموعة بالقرب من المجاري على أراجيح مربوطة بجدران الأنفاق.

ويصف زيارته مدن لكابادوكيا المخفية وسط تركيا والمستوطنات الصغيرة الموصوفة بـ «القلاع المقلوبة رأساً على عقب» على عميق ثمانية مستويات تحت الأرض، وزيارته لكهوف في أميركا الجنوبية، حيث كانت تمارس طقوس التضحية البشرية، ونزوله مسافة ميل تحت سطح الأرض إلى منجم ذهب قديم في ولاية ساوث داكوتا. يكتب أن باطن الأرض يوفر رؤية جديدة لبداية الحياة على الأرض فقد وجد الأحياء كائنات وحيدة الخلية بوفرة.

في أستراليا، قام بالبحث عن طاعن في السن من السكان الأصليين، الذي لا يزال يذكر الأغاني والقصص التقليدية السرية لمناجم أكسيد الحديد، وتحدث إلى عالم أميركي لفهم الأساطير المحيطة بالكهوف، وتتبع فنان مترو أنفاق نيويورك الغرافيتي ريفس، الذي رسم على مدى ستة أعوام 235 لوحة عبارة عن سيرة ذاتية، وربط بين أعماله ومجموعة من سكان العصر الحجري، الذين صنعوا منذ 14 ألف عام في كهف في جنوب غرب فرنسا، زوج من التماثيل الجميلة لحيوان البيسون.

وبدا هنت غير مبال بروائح الأماكن الجوفية، تلك الروائح الترابية شبه الرعوية مثل الطباشير المغمسة بالمطر للسراديب في باريس، أو رائحة «المزرعة القديمة المليئة بالأسمدة في نظام الصرف الصحي في نيويورك».

قد تكون هناك مبالغات في استنتاجاته، لكن أهمية الكتاب لا تكمن في تأملاته الفلسفية، بل في تتبع أبحاثه ومن يصادفهم على الطريق والتعلم عن أجدادنا. وفيما قد لا نشاركه الهوس بالأماكن المظلمة، لكنه يغير نظرتنا إليها عبر القصص والمعلومات والرؤى والأساطير والمغامرات. يكتب: «عندما نخرج من مثل تلك المساحات نشعر كما لو أن جزءاً آخر فينا قد استيقظ».

 

 

صحيفة البيان الاماراتية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى