تحت سماء المراحيض

كل شيء يبدو بغيضا تحت سماء الكلاب، هذا العالم لا يمشي على قديمه، ينبغي لتغييره من تعديل الرؤية، بقلب اللغة نفسها، جعلها ملغمة بالانفجارات السفلية. أن تكون اللغة خطاب السفلي والهامش والقاع.

هذا ما فطن إليه الكاتب العراقي صلاح صلاح في روايته “تحت سماء الكلاب”، فبما أن النفي هو الموضوع الأساسي فإن هذا الخطاب، الكاره للحشمة، الأكثر ملائمة لشكل متفق مع مضمونه.

الرواية تذكرنا برواية غسان كنفاني “رجال في الشمس”. حيث نلمس تواشجا مضمونيا واضحا ينتظم تحت لوغوس الطرد والنفي واللعنة. كلاهما ينثر عذاب نفيه الخاص. نلمح عند غسان كنفاني وطنا مفقودا اسمه فلسطين، أما صلاح صلاح فيفتش عن وطنه في وطنه. تلاحقه الأجهزة الأمنية التي يمقتها ليلجأ لشمال العراق المخترق من كل استخبارات الدنيا. عندئذ يبدأ الكابوس، الوطن يتحول إلى النقيض، يصبح وطنا مغشوشا.

يشتبك الكاتب مع بؤس العالم. التعنيف الناجم عن كابوس بحجم العالم يرتد نحو اللغة فتصبح حادة عنيفة ولاذعة تشبه البارود. تصبح لغة مدنسة، لغة لا تستحي. غياب الفضيلة يستدعي “ترذيل اللغة”. يطرد السارد الفضيلة لأن العالم ينفيها. العالم بالوعة كبيرة. لماذا نعيش في هذا العالم؟ سؤال الرواية الأبرز.

إن الحياة بالنسبة لصلاح صلاح متوالية لا تنتهي من العذاب، والحقيقة لا تكشف ذاتها إلا بانتهاكها، بتلغيمها بشك لذيذ يفجره كاتبنا ببراعة. ينبغي أولا اتقان فن الانتهاك قبل الشروع في أي محاولة للتساؤل حول الحقيقة والميتافيزيقا والموت. من قال إن هذا العالم المقيت يتسم بجمالية أخرى غير القبح؟ إنه عالم يمكنه أن يتسم بأي شيء إلا الرومانسية. عالم من الموت. عالم ملوث بالفضلات القذرة للساسة والخونة والجواسيس. إنه كوسمولوجيا شيطانية.

لا بد من اطلاق العنان للشتيمة. الشتيمة تعيد بناء معمار الرواية بصيغة أكثر وفاء للوغوس اللعنة. إن الرواية تقيم كسمولوجيتها الخاصة، دعونا نتابعها ونتخيل: السماء الاولى سماء الكلاب، السماء الثانية سماء الشتائم، السماء الثالثة سماء الاتهامات، السماء الرابعة سماء المراحيض، السماء الخامسة سماء المؤلف، السماء السادسة سماء الأيديولوجيا، أما الأخيرة فسماء المفارقة، حيث يحتشد الموت وتغني الأغنية “الموت.. موت.. والأغنيات.. أغنيات”.

أين يستريح النص؟ تحت سماء الكلاب أم الشتائم أم الأيديولوجيا المدعمة بهذر البذاءة ورائحة عالم مرحاضي؟

الأكيد أن عالم النص هو عالم هذه السماوات حيث السارد الذي يبدع شخصياته المأزومة بلعنة المكان هو نفسه الشاعر المسكون بتيه أبدي. السارد هنا شاعر شقي يتسم بشخصية هوائية، لأن الشعر انفلات راديكالي، آخر مطلق للعقل، عصي على التنبؤ والنسقية. على هذا الأساس نشهد تحولات وانقلابات وحالات مزاجية.

أذكر شاعرا مثل السياب يهبنا نموذجا لتفتيت الشخصية وتدمير كل محاولة لتثبيتها في “بروتريه” متخشب وأزلي، فالشاعر الذي دبج المقالات في مديح عبدالكريم قاسم عقب ثورة تموز هو نفسه الذي كتب ذات مزاج آخر: “عملاء قاسم يطلقون النار، آه على الربيع. سيذوب ما جمعوه من مال حرام كالجليد.. يا للعراق”.

السرد مملوء بالشعر والتفجع وشيء آخر: تعقب الجملة الشعرية شتيمة بورنوغرافية، الجملة الشعرية التي تتسع أحيانا إلى إسهاب منهك، لا بد أن تعقبها كلمة نابية أو شتيمة أو كلمة مرحاضية أشد توغلا في عالم سفلي لا يعبر عنه بعفوية بقدر ما يحيله الراوي إلى زينة بلاغية صادمة، إلى شيء استعمالي يوظف لمصلحة الأيديولوجيا. حتى القبح له جمالياته وفتنته وبلاغته ومنطقه الخاص.

“فوق سماء الكلاب” إذن سماء الأيديولوجيا. وفي قلب النص تحتجب السمة الأدبية لنص يختبئ مؤلفه وراءه لتبرز هيمنة المؤلف وسطوته. يظهر المؤلف بوضوح فيما يغيب النص، وتتشوه الطبيعة الأدبية حيث ينحدر السرد من الايحاء إلى التصريح، من الشعر والمجاز إلى الشرح والتقرير والدعاية الحزبية والخطابية الفاقعة، ربما لكي يريح نصه المنهك بالضغينة.

المؤلف في هذه الرواية يتسم بكامل الصفات التيولوجية. كرب حقيقي يوزع اللعنات ويغدق نعيمه على من يشاء. هذه رومانسية المؤلف تمشي على قدميها بكل بهائها. إنها رومانسية الذات اللاعنة والساخطة.

من الجلي أن الروائي شاعر بارع، ربما يكون شاعر ضل طريقه ليجد ذاته بين القصة والرواية. موزعا بين الايحاء الشعري والسرد التاريخي. السرد الرشيق المطعم بالشعر والشتيمة أكثر جاذبية بالتأكيد من نص فاتر جبان وطهراني منافق، النص المنفي نص لا يستحي، نص ملوث ومريض بنفيه الخاص أيضا، لكن الكاتب زاد الجرعة عما يحتمل، ليبدو النص مفتتا حينا منهكا دائما باستعراضية أدبية تفوق التخمة الوعظية أو الدعائية الأيديولوجية المترشحة في أكثر من مكان من النص، وتحديدا الدعاية للقومية في ثوبها البعثي اليميني.

لكن الذروة التي تتكشف فيها سيكولوجية الذات الراوية بسفورها وعريها وهيمنتها لا تكمن فقط في الاستعراض الشعري والخطابية الأيديولوجية، وإنما في اللحظة التي يتحول فيها النص إلى صندوق “ميدوزا” حقيقي تتطاير منه الاتهامات والتخوين والكراهية الشوفينية. مثلا: “الكردي إنسان قطيعي بالفطرة”، قاطع طريق وقاتل مأجور، الصفات الكردية هي صفات التبعية والخرافة والاغتراب. يبحث الكردي عبثا عن ذاته، عن هوية وعن وطن.. أوهموه أن له وطنا خاصا إسمه “كردستان” لكنها أكذوبه صدقها: “إنه صدق الكذبة إلى الأبد”.

إن سماء شمال العراق، السماء الكردية تأن تحت وطأة الأحزاب الكلبية والجواسيس. تحول العراق – في شماله تحديدا حيث مسرح أحداث الرواية – إلى مكان تسوده كلاب سلوقية للصيد والحراسة. والسؤال المغيب، لماذا وكيف صار المكان على هذا النحو؟ من صيره لقمة سائغة لكل مخابرات الدنيا. من جعل العراق تحت سماء المراحيض؟

ميدل ايست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى