“ثورة 1919 وهؤلاء” حينما يصحح التاريخ نفسه

 

ليس للمناسبة فقط يكثر الحديث والكلام والكتابة عن ثورة 1919، فمرور 100 عام على أحداثها كان يمكن أن يكون كفيلًا بتبريد تأثيرها وإبقائها صفحة في كتاب التاريخ. ولكن الذي حدث هو العكس، فمرور 100 عام على أحداث أول ثورة شعبية على المستعمر البريطاني لمصر ازدادت حرارة وحماسة وخرجت أحداثها من كتاب التاريخ لتعيش مرة أخرى وتعيد طرح وقائعها عسى أن يكون فيها فائدة لمستفيد.

فإن لم تكن المناسبة سبب الكتابة والحديث والكلام عن ثورة 1919 فماذا يكون السبب؟ أغلب الظن أن السبب الحقيقي لإعادة إحياء ثورة 1919 بعد مائة عام من أحداثها هو أن الشعب يستعيد “هويته” و”ذاته”. الهوية التي تاهت في أطروحات انفعالية مبتسرة عن حقيقة هذاا الشعب وإنسانه المصري البسيط في رغباته العنيد في تحقيق توازنه وكرامته. الهوية التي تاهت في إنشاء كلمات جميلة وأفعال رديئة. الهوية التي تمزقت بين وطني وقومي وإنساني. مؤمن وعلماني. مسلم ومسيحي. سني وشيعي. تعريفات تتوالى على عقل الإنسان البسيط ابن الحقل والورشة. الإنسان الذي كل طموحه حرفة يتكسب منها وفتاة يعشقها وينجب منها أولاده، ومسكن يستر أسرته الصغيرة. لا يحلم بالوصول إلى النجوم أو الصعود إلى القمر، ولا السكنى في أبراج الرفاهية. هو يريد أن يعيش سعيدًا في بيته البسيط مع زوجة يحبها ويبثها أشواقه، وأولاد يحملونه في هرمه ويوارونه الثرى. وكانت ثورة 1919 كل هذا.

والعجيب أن قادتها كانوا من باشوات المجتمع ووجهائه، ولكن الذي أعطى ثورة 1919 الحياة المستمرة وجعلها تسكن قلوب الشعب وعقله كان طاقاتها البشرية من البسطاء من أبناء الريف والصعيد والأحياء الفقيرة في المدن وطلاب المدارس والجامعات، فهؤلاء هم الذين لا يخشون عزًا يزول أو ثروة تضيع أو غضبة سيد من سادات اللحكم الإنجليز يرمي به في غيابة النسيان.

هذا هو الذي أعطى لثورة 1919 وقود طاقتها أن يستكن في وجدان كل وطني غيور بالرغم من انحراف الكبار، أيًا كانت صفتهم، جريًا وراء مكاسب مادية أو رضى يمنحهم السلامة والأمان ويفتح لهم نافذة الأمل في منصب أو جاه.

وقد فعل خالد ناجح (رئيس تحرير مجلة “الهلال”) في كتابه “ثورة 1919 وهؤلاء” الصادر عن دار الهلال بالقاهرة في سلسلة “كتاب الهلال” عدد مارس/آذار 2019. فقد أعاد قراءة الأحداث الثورية وأعاد قراءة من كتب عنها، وأعاد إلينا صورة أو بعض صورة من أحداثها بعد أن نقّاها وأحسن عرضها، فجاءت مفاجأة لمن يتابع ويتتبع أحداث ما يجري في مصر منذ بزغ فجرها الحديث في القرن التاسع عشر.

كيف كان ظهور المرأة في مواكب الثوار حافزًا منشطًا لشبابها أن يستمروا ورادعًا  لجنود الاحتلال أن يهاجموا ببنادقهم ومدافع دباباتهم نساء مسالمات محتشمات يهتفن بحياة الوطن وحرياته. تذكروا هذه الأسماء واحرصوا على ترديدها وعدم نسيانها فقد أنسيت سنوات طويلة لطمس هوية المرأة وسجنها في وظائفها الطبيعية. تذكروا: تفيدة طلعت صبور، وأختها عريفة طلعت صبور، وجميلة عطية، ووجيدة وأمينة وفهيمة ثابت. ست فتيات مصريات قدن أول مظاهرة لأول مرة في تاريخ بلادنا تنادي بسقوط الاستعمار والاستبداد، وتطالب برفع القيود والحرية للإنسان المصري ولسانه في الصحف.

وتذكروا هذه المظاهرة الكبرى الثانية لنساء مصر تقودهن: هدى شعراوي، واستر فهمي ويصا، وجميلة عطية، وهدية بركات، وإحسان القوصي، احتجاجًا على قتل المتظاهرين المطالبين بالحرية للشعب ولزعمائه. وبعد إحاطة جنود الاحتلال الإنجليزي بالمتظاهرات أدركت استر فهمي ويصا أنهم يستعدون للغدر بضرب قائدتهم هدى شعراوي، فانطلقت استر فهمي ويصا إلى الأمام ووقفت في مقدمة المظاهرة مدافعة عن قائدتها متحدية جنود الاحتلال وسلاحهم قائلة للجنود بالإنجليزية التي تتقنها: “هاكم صدري فأطلقوا علي الرصاص إن كنتم رجالًا حتى يعرف العالم كله أنكم دون البشر وأحط في وحشيتكم من الحيوانات”.

أعادت ثورة 1919 فكرة الوطن الذي يعيش الإنسان فيه وينتمي إليه ويرتقي به ينميه وينمو به يرقيه ويرتقي به ليجعله أيقونة عز وعزة يفخر بها ويتباهى ويُباهي ولا يخجل أبدًا من كبواته. هذه الوطنية هي التي فجرت بعد 1919 ثورة الشباب سنة 1935 وثورة يوليو 1952 وثورة الشباب في 1968 بعد نكسة يونيو 1967 وثورة شباب السبعينيات وثورة يناير 2011 ويونيو 2013.. إنها الروح التي بعثتها ثورة 1919، والتيار الكهربي الممتد دائمًا ليوقظ في المصري مصريته وفي السوداني سودانيته وفي الشامي شاميته وفي العربي عروبته ليكونوا جميعًا في بوتقة واحدة تصهرهم وينصهروا بها حتى يأتي اليوم الذي يقام فيه الوطن الواحد للكل، ووطن الكل في واحد.

ميدل  إيست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى