حينما يظهر شبح فان جوخ في كوابيس العقيد

 

كان شكسبير أول من انتبه للثراء الباذخ لشخصية الديكتاتور بكل تناقضاتها فبرع في تصوير شخصية “الملك لير”، خصوصا في لحظات ضعف وخوف أدركه الشعور بهما كأي إنسان وليس كملك، لكنّ روائيي أميركا اللاتينية أفلحوا في بلورة صورة روائية مميزة للديكتاتور وحاشيته ونظام حكمه ومجتمعه، فجارثيا ماركيز عالجها في “خريف البطريرك” وبارجاس يوسا في “حفلة التيس” وقبلهما ميجيل أنجيل استورياس في “السيد الرئيس”، وهناك نماذج أخرى لأليخو كاربنتيير، وأوجستو روا باستوس وغيرهما، وقد لا تجد كاتبا لاتينيا كبيرا لم يقارب هذه الشخصية روائيا، وخارج أميركا اللاتينية نجد كثيرين تناولوها منذ جورج أورويل في 1984، و”أنا كلاوديوس” لروبرت جريفز عن الطاغية الروماني كلاوديوس، وميلان كونديرا الذي سخر كثيرا من ستالين في “حفلة التفاهة“.

لكن الروائيين العرب آثروا السلامة فلم يغرهم ثراء الشخصية بالاقتراب أو ربما لأنهم يعتقدون بأن من يحكموننا لا ينتمون لفصيلة الديكتاتور.

قليلون فقط من اقتربوا، أحدهم محمد مولسهول، وهو جزائري ممن يكتبون بالفرنسية، يستعير اسم زوجته ليظهر على أغلفة كتبه “ياسمينة خضرة”، وهو أيضا ضابط سابق بالجيش الجزائري يدافع دائما عن زملائه السابقين، وكما ابتعدت كتابته عن اللغة العربية ابتعدت رواياته عن الجزائر فكتب عن “سنونوات كابول”، و”صفارات انذار بغداد”، و”ليس لهافانا رب يحميها”، و”ليلة الريس الأخيرة” التي ترجمها أنطوان سركيس وصدرت عن دار الساقي ببيروت.

الليلة الأخيرة

ربما كانت جملة “زنجا زنجا” بما أثارته من سخرية آخر ما بثته وكالات الأنباء بصوت العقيد معمر القذافي، وقع الكلمة المكررة يجسد بؤس المشهد الختامي لرجل حكم ليبيا اثنين وأربعين عاما انتهت بقتله، لكن ياسمينة خضرا يستحضر روحه بعد الاغتيال، يمنحه فرصة ما بعد أخيرة للكلام، فماذا يقول؟

الرواية تقتنص القذافي قبل أن يقع في قبضة من يطاردونه، ترصده في مخبئه بقبو مدرسة مهجورة بمدينة سرت، في ليلة 19/20 أكتوبر/تشرين الأول 2011،  يضعه الروائي أمام مرآة نفسه فيهذي كثيرا، ويستعيد كلاما يؤكد على ثقته في تحقيق النصر واستعادة مكانته رغم كل ما تحمله اللحظة من بؤس يراه العقيد مجرد وسيلة للتطهر، يقول لنفسه ولمن بقي من رجاله عبر مونولوج طويل “ليقذفوني بصواريخهم جميعها، فلن أرى فيها سوى ألعاب نارية احتفاء بي. ليدكّوا الجبال، فلن ألمح في ركامها سوى صخب صيحات الجماهير الهادرة حولي، ليطلقوا على ملائكتي الحارسة كل شياطينهم القديمة، فما من قوة شريرة ستثنيني عن رسالتي. فقد كان مكتوباً، حتى قبل أن تستقبلني قرية قصر أبو هادي بين أحضانها، أنني سأكون ذلك الذي سيثأر للإساءات في حق الشعوب المضطهدة عبر إخضاع الشيطان وأتباعه”.

وهو كأي طاغية لا يلوم نفسه، حتى وإن صارحه منصور ضو قائد الحرس الشعبي، ففي لحظة انهيار يلطمه بقولة حق “المجازر والتخريب في الخارج ليست نتيجة سحر أسود ألقي علينا، بل نتيجة هذياننا وشططنا”.

لكنه لا يستطيع أن يرى نفسه مخطئا، يحذر منصور من أنه قد ينتزع لسانه بكماشة، ثم يعود لمناجاة نفسه “الحياة بالغة التعقيد وبالغة الفظاظة، منذ أشهر معدودة، كان الغرب، ومن دون أي شعور بالعار، يفرش دربي بالمخمل، ويستقبلني بكل مظاهر الشرف، ويطرز كتفيّ كعقيد بأكاليل الغار، سمحوا لي بنصب خيمتي على مروج باريس الخضراء، وهم يضربون صِفحاً عن فظاظتي ويغضون الطرف عن فظاعاتي، واليوم يحاصروني على الأرض كفارٍّ من إصلاحية”.

ثم  يعود ليتقمص شخصية الحكيم مفلسفا الموقف “في يوم تكون معبوداً وفي يوم آخر تكون منبوذاً، في يوم تكون أنت الصياد، وفي يوم آخر الطريدة”. فكيف يخطىء وهو “معمر القذافى، الأسطورة متجسدة في رجل، إن كان عدد النجوم في سماء سرت قليلا هذا المساء، والقمر أشبه بقصاصة ظفر فلكي أبقى كوكبة النجوم الوحيدة التي لها اعتبار”.

سيل الذكريات

يعتمد ياسمينة خضرا كثيرا على تقنية الفلاش باك، ليستعيد الراوي “معمر القذافي” ذكرياته، التي لم يتبق له في لحظاته الأخيرة سواها، فيستعيد وقائع طفولته وصباه، ويتحسس جرحه كثيرا، فتطفح ذكريات طفولة بائسة، حيث يجد ابن الفقراء نفسه مثارا لسخرية الآخرين الذين يزيدون فيطعنون في نسبه، ينادونه “ابن الزنا”، فهم لا يعرفون له أبا، يهرب بذكرياته إلى أيام السفر إلى بريطانيا، ثم يعود للهذيان ليمسح مرارة الذكريات الأليمة، “أنا فقط، أبو الثورة، والابن المبارك لعشيرة الغوص القادم من صحرائه ليزرع الطمأنينة في القلوب والأفكار. كنت موسى المنحدر من الجبل، والكتاب الأخضر في يدي بدل لوح الشرائع، كان كل شيء يعلن نجاحي. أنصار الوطنية العربية كانوا يمجدونني بأعلى أصواتهم، قادة العالم الثالث كنت أعلفهم بيدي، رؤساء أفارقة يردون نبع شفتيّ، المتدرجون على طريق الثورة كانوا يقبلون جبيني لينتشوا. جميع أبناء العالم الحر كانوا يطالبون بي. من تراه لا يمجد خالع الملوك وصياد النسور، بدوي فزان المقدسة؟”.

ولأن جرح النسب غائر، يتهرب منه مستدعيا الخال في أول الرواية “حينما كنت صغيرا كان خالي يصطحبني أحيانا إلى الصحراء” فلما ينام الخال “كنت أشعر بنفسي وحيدا وسط هذا العالم”، والأم في آخرها تدعوه عبر السراب وتعيد عليه نصائحها التي يفهم مغزاها بعد فوات الأوان.

شبح فان جوخ

يتناسى الأب مصدر الألم، فقط الأم والخال وفان جوخ الذي يزوره كثيرا في أحلامه، كان قد افتتن بلوحته “آكلو البطاطا” حينما رآها في كتاب، “ظلت محفورة في ثنايا عقلي الباطن، وكالعميل المتخفي كانت كل مرة يلوح في الأفق حدث جلل تعود لتنغص على رقادي”، يلجأ لمفسري الأحلام لكن دون جدوى، فليس ثمة علاقه بينه وبين فان جوخ إلا في بؤس طفولتهما، لكنه مقتنع بأن هناك تفسيرا ما لظهور شبح فان جوخ له يطارده في الكوابيس بمعطفه الأخضر وبضمادته التي تغطى الأذن المقطوع. الشبح الذي لازمه ليلة الفاتح من سبتمبر/أيلول 1969، عاوده في أغسطس/آب 1975 محذرا من تآمر اثنين من الأصدقاء “فيقضي على محاولة الانقلاب كمن يفقأ دمل“.

يبوح الراوي “كل مرة يخطر فيها الرسام الملعون في بالي/ يضيف التاريخ مدماكا إلى صرحي” فيتساءل إن كان لون كتابه وعلمه من وحي معطف فان جوخ الأخضر. وفي النهاية حينما يلومه طيف الأم “أنت لا تسمع إلا بأذن واحدة، تلك التي تنصت بها طوعا إلى شياطينك”، حينها وقبل أن يذوب في دوامة العدم يفهم سر ظهور فان جوخ له بأذنه المقطوعة، لكن وبحسب الجملة الأخيرة، كان الأوان قد فات.

أخيرا نجحت الرواية في ملامسة محنة القذافي كإنسان مطارد مهزوم، فقد السلطة التي كانت مطلقة وعلى وشك أن يفقد حياته، وهو كطاغية يلوم الجميع ويرى نفسه فريسة غدر أو ضحية قدر غشوم، لكن لا يمكنها الصمود في مقارنة مع أي من الروايات الشهيرة التي تناولت شخصية الديكتاتور، فالكاتب الذي أبدع في صوغ ذكريات العقيد، فاته الالتفات إلى المكان وتفاصيله وبشره، فضيع على روايته فرصة تصوير أثر أربعة عقود من حكم القذافي على بلده وشعبه، كذلك فالحوار الذي يملأ صفحات الرواية ورد في حالات كثيرة لمجرد ذكر معلومات متاحة سلفا في العديد من الكتب التي تناولت حياة القذافي وحكمه، وبدا في بعض الأحيان كثرثرة لا يمكن أن تحدث بين رجال مطاردين. وهكذا فالروائي منح قراءه رواية جديدة مشوقة لكن الديكتاتور العربي لا يزال يبحث عمن يكتبه.

ميدل إيست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى