كتب

دان تامر: الفاشية العبرية في فلسطين

في ظننا، ثمة حاجة إلى شرح رأينا في بعض النقاط ذات الصلة بكتاب دان تامر «الفاشية العبرية في فلسطين 1922-1942» ( Hebrew Fascism in Palestine, 1922–1942- Palgrave Macmillan; . 2018) أولها طبيعة الصهيونية وجوهرها. ربما ظن قارئ ما أن ممارسات الصهيونية وحشية بما لا يقاس وهي بالتالي حركة فاشية أصلاً، وليس ثمة حاجة لإثبات وجود فاشية «عبرية». قدم الكاتب هنا تعريفات أكاديمية عدة للفاشية تعكس عدم اتفاق الأكاديميين الغربيين على ذلك.

يسود رأي بين البحاثة الغربيين بأن الصهيونية حركة قومية للشعب اليهودي [كذا]. أمر تبنته اللينينة السوفياتيَّة المعاصرة، ومن دار في فلكها من الأحزاب الشيوعية في مقدمها بعض الأحزاب الشيوعية العربية. هذا أمر غريب لأن الأممية الأولى أصدرت تعليماتها الصارمة للحزب الشيوعي الفلسطيني بتعريب الحزب ومواجهة الصهيونية والتصدي لها، وهو ما عاد إليه الاتحاد السوفياتي إبان عهد أندربوف، وانتهى بوفاته.

في ظننا أن الصهيونية حركة وفكر ألفي عنصري رجعي يجمع في ثناياه أفكاراً منتقاة من الأساطير والدين والتأويلات الدينية. والصهيونية نمت في أوروبا بين الأشكناز، لكنها ولدت في القرن الثامن عشر على يد رجال الدين البروتستانت في بريطانيا، الذين أصابتهم لوثة الألفية إبان الثورة الفرنسية. والصهيونية لم يكن لها أي قاعدة بين السفارديم أو المزراحيم، أي العرب اليهود الذين كانوا يتباينون عن الإشكناز في اللغة التي كانت العربية، بينما لغة الأشكناز كانت وما زالت اليديش، التي تتكون بمقدار 80 في المئة من الألمانية، والبقية خليط من لسان التوراة واليونانية القديمة واللاتينية.

الصهيونية حركة رجعية متطرفة لأنها نمت بين بعض الأشكناز كرد فعل على حركة التحرر التي اندلعت بينهم في أوروبا في أعقاب الثورات البرجوازية ومعاملتهم كمواطنين كاملي الحقوق والواجبات. لكنها لم تكسب قبولاً جماهيرياً أوسع في صفوف الأشكناز، إلا بعد الحرب العالمية الثانية. الصهاينة الأشكناز رفضوا ذلك، وعدوا حركة التحرر «اليهودية الإشكنازية» خطرة، وفي الوقت نفسه عدوا معادي اليهودية حلفاء موثوقين بسبب تشاركهم في الهدف الرئيس وهو فصلهم عن مجتمعاتهم التي نموا فيها لأكثر من خمسة عشر قرناً.

ننتقل الآن إلى مسألة الفاشية العبرية كما يسميها الكاتب، مستعرضين رأيه في المصطلحين «عبري» و«يهودي». يرى الكاتب ضرورة تمييز «عبري/ Hebrew» عن «يهودي/ Jewish». على سبيل المثال، المفردة الإيطالية (ebrei) تعني بالعربية «يهودي»، والمقصود هنا الإشارة إلى شخص ينتمي للديانة اليهودية (Jewish)، وقد استقدم المصطلح الإيطالية لأن الفاشية ترتبط عادة بإيطاليا، وبشخص موسوليني أكثر منه بالنازية الألمانية. علماً أن الفكر الفاشي انتشر خارج إيطاليا. هنا، يذكر الكاتب أمثلة من بينها فاشية فرانكو وفاشية حزب الكتائب اللبنانية، وغيرهما.

يوظف المؤلف المصطلح «عبري/ Hebrew» للإشارة إلى مجتمع الأشكناز الاستيطاني الذي كان في طور التشكيل في فلسطين الواقعة تحت الاحتلال البريطاني، وبدعم غير مسبوق منه. يرى أن المصطلح يصف من جانب طبيعة الحيز الثقافي الذي كانت الحركة السياسية ذات الصلة تنمو فيه، ولأن لغة التوراة التي يطلق عليها اسم «العبرية»، وهو تعريف غير صحيح علمياً، كانت في الوقت نفسه وسيلة التعليم والصحافة… يوضح رأيه بأن هذا المصطلح يحمل بعداً سلبياً لأن العبرية ليست يهودية، كائناً ما كان رأيه في معنى الأخير.

كما يتعامل الكاتب مع معنى مصطلح «فاشية»، باختصار مسهب [!] إن صح التعبير، ملتفتاً إلى مختلف التعريفات الأكاديمية التي أوردها علماء الاجتماع الغربيون، والتي تتباين في ما بينها.

الإجابة عن سؤال ماهية الفاشية، تقتضي ــ وفق الكاتب ـــ تقسيم السؤال إلى ثلاثة أسئلة فرعية ذات صلة. ما جذور الفاشية؟ ما حدودها؟ وما مكانها وموقعها في الحيز السياسي اليميني. يوضح الكاتب أنّ الفاشية لم توجد لحد ذاتها، ذلك أنها كانت معادية لليبرالية أي التعددية الحزبية التي يطلق عليها «الديموقراطية»، والتي هي أبعد ما تكون عن الديموقراطية بمعنى «حكم الشعب»، وكذلك معادية للشيوعية ومعادية للعقلانية. لكنه يصل إلى استنتاج بأنه من غير الممكن وضع تعريف أساس للفاشية، وإن يوافق على تجلياتها وهي كونها رأسمالية معادية للشيوعية، تؤمن بالقائد القوي، وما إلى ذلك من التجليات التي نعرفها من الأمثلة الأوروبية والعربية. وثمة رأي بأن الفاشية كانت في الأصل حركة ثقافية قبل أن تستحيل حركة سياسية.

في ظل عدم التوافق بين علماء الاجتماع في الغرب على تعريف الفاشية، فإن الكاتب يقبل بتعريف العالم الأميركي المحاضر في «جامعة كولومبيا» الذي وضعه في مؤلفه The Anatomy of Fascism (عام 2004)، حيث قال إنه يمكن تعريف الفاشية بأنها أيديولوجيا عصبية متطرفة a radical nationalistic ideology تستلزم توافر النقاط التسعة الآتية:

1) الشعور بوجود أزمة عامة خانقة يستحيل حلها بالطرق التقليدية.
2) الإيمان بأولوية الجماعة التي لها أفضلية على أي حقوق فردية أي كانت، ووجوب إخضاع الفرد للجماعة.
3) الإيمان بأن الجماعة ضحية ما يسوغ أي عمل ضد الأعداء، داخلياً وخارجياً.
4) الذعر من اضمحلال الجماعة بسبب الآثار التآكلية لليبرالية والاشتباكات الطبقية والتأثيرات الخارجية.
5) الحاجة إلى تكامل أكثر للجماعة الصافية عرقياً، إما بالرضى أو بالعنف.
6) الحاجة إلى زعامة قيادات طبيعية تبلغ أوجها بزعيم وطني أوحد.
7) تعالي سليقة الزعيم على رشد مجرد أو عام.
8) جمال العنف وفاعلية الإرادة يتجليان عندما يكرسان لنجاح الجماعة.
9) حق الشعب المختار في الهيمنة على الآخرين من دون أي ضوابط وضعية أو قدسية، ويكون المعيار الوحيد لتحديد بأس الجماعة من خلال النضال الدارويني.

اعتماداً على هذه النقاط، ينطلق الكاتب للبحث المفصل في الأفراد والجماعات «العبرانية» التي يرى أنها كانت فاشية. كما يورد مقاطع مختلفة تبين أنها وجدت اتجاهات فاشية «عبرانية» أعربت عن إعجابها وتماهيها مع النازيين الألمان والفاشيين الإيطاليين وغيرها من الحركات المماثلة. كما يذكر أن أحد الكتاب الفاشيين «العبرانيين» وصف نفسه بأنه فاشي؛ (أنظر تحالف «روما وأورشليم» ضد مثلث الشيطان: موسكو ومكة ولندن). نكتفي بهذا القدر ونؤكد أن أحد أهداف اختيارنا هذا المؤلف هو تحفيز الجيل الجديد من الأكاديميين العرب البحث العلمي في المسائل التي يطرحها بما يعني بالضرورة تقديم فهم أعمق للصهيونية وطبيعتها وتجلياتها بعيداً من التعريفات السياسية السائدة. أما تعريفي الخاص لها هنا فقد أوردته مختصراً، ولا أعده الكلمة الأكاديمية الأخيرة.

 

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى