رؤية الرحالة الأوروبيين لمصر بين النزعة الإنسانية والاستعمارية

 

بين أجزاء سلسلة “التاريخ.. الجانب الآخر.. إعادة قراءة للتاريخ المصري” الصادرة عن دار الشروق بالقاهرة لفتني هذا العنوان: “رؤية الرحالة الأوروبيين لمصر بين النزعة الإنسانية والاستعمارية”، وفي تقديمه للكتاب يذكر الدكتور يونان لبيب رزق الدور الذي قامت به المؤلفة الدكتورة إلهام ذهني، أستاذة التاريخ الحديث بكلية الدراسات الإنسانية للبنات بجامعة الأزهر لإعادة النظر في دور الرحالة الأوروبيين لمصر في القرون الأربعة التي بدأت بمطلع القرن السادس عشر وانتهت في آخر القرن التاسع عشر.

وكيف أن المؤلفة قسَّمت رؤيتها في اتجاهين؛ الأول ما حدث في القرنين السادس عشر والسابع عشر حيث كان معظم الرحالة فيهم من رجال الدين الذين حرصوا على الحج في القدس، ومنها اتجهوا إلى مصر لزيارة الأماكن المسيحية الشهيرة.

أما في القرن الثامن عشر فقد ازداد عدد الرحالة، واختلفت توجهاتهم، فجابوا مصر: حضرها وصحاريها وتوغلوا في الوجه القبلي، وظهر من هؤلاء الرحالة في تلك الفترة من أسمتهم الباحثة بـ”الرحالة الجواسيس” الذين مهَّدوا لغزو مصر في نهاية القرن الثامن عشر.

وهؤلاء الرحالة كتبوا مؤلفاتهم عن مصر ودورها في قلب العالم، واقترحوا من المشروعات ما يربط بين القارة الأوروبية والقارة الآىسيوية عن طريق ربط البحرين: الأحمر والأبيض قبل التفكير في حفر قناة السويس.

وبعض الرحالة حاولوا أن يفيدوا من العجز المالي الذي كانت عليه البلاد، وضعف القوى السياسية على النهوض بها، فكانت محاولات التمهيد لاستعمار مصر، وفي بعض الأحيان وصل بهم التفكير إلى أبعد من ذلك بإخلاء هذه البلاد من أهلها الذين لا يستحقونها وإحلال أجناس أخرى تفهم قيمة مصر وحضارتها!

تلك النظرة التي جمعت بين العنصرية والاستعمارية هي في جميع الأحوال نظرة استعلائية لم يسمح لها أن تؤثر على نسيج الشعب المصري، رغم مما كان يبدو عليه من ضعف سببه الاستبداد المستمر للدولة العثمانية، والظلم المستمر الواقع على الشعب المصري.

وهناك بعض الرحالة الذين زاروا مصر بدعوى اهتمامهم بدوافع إنسانية لخدمة الشعب، ومن هؤلاء أعضاء جمعيات محاربة الرقيق في أوروبا، ومن بينهم أيضًا من سجّلوا مأساة الفلاح المصري وما يقع عليه من أعباء أثقلت كاهله، ومن هذه الجماعات جماعة “السان سيمونيين”.

ومما لفت الاهتمام لموقع مصر وقيمتها ما استطاعوا أن يجدوه ظاهرًا فيها من الآىثار المصرية القديمة.

أما رحالة القرن التاسع عشر، فظهر من بينهم النساء الرحالات، وهن اللاتي أتيح لهن دخول مناطق “الحريم” في البيوت، لكشف أسرار الحياة الاجتماعية وطبيعة الثقافة السائدة، وتعرية جوانب كثيرة في طبيعة المجتمع المصري، وكيفية تعامله مع النساء.

وهنا أود الإشارة إلى أن الدكتور ثروت عكاشة كان صاحب فضل في الكشف عن بعض جوانب هذه الظاهرة التي عاشتها مصر، عندما نشر كتابه “مصر في عيون الرحالة والفنانين والأدباء”، ومن بعده كتبت الدكتورة سحر عبدالكريم عن الرحلة إلى مصر، وكتب جان ماري كاريه عن الرحالة الفرنسيين. وقد وردت أسماء الكثيرين من الرحالة الذين كتبوا مؤلفات عن مصر في تلك الفترة التاريخية.

نشر منها جاسون طومسون، أستاذ التاريخ بالجامعة الأميركية بالقاهرة، مخطوط إدوارد لين الذي دوّن فيه ملاحظاته عن آثار مصر والنوبة ما بين عامي: 1825-1828، وفي هذا الإطار تأتي هذه الدراسة للدكتورة إلهام محمد ذهني، التي تهدف من خلالها إلى الوقوف على الأهداف الحقيقية لهذه المؤلفات، وإبراز الجوانب الإنسانية والأهداف الاستعمارية، ولا سيما أن الرحالة وفدوا من جميع بلدان أوروبا من: فرنسا، وبريطانيا، وبروسيا، وسويسرا، وإيطاليا، ومن روسيا أيضًا. وكذلك وفد إلى مصر رحالة من أميركا.

وكما أشرنا من قبل، فإن الرحالة الذين جاءوا إلى الشرق لأغراض دينية، تمثلت في زيارة بيت المقدس، ثم اتجهوا إلى مصر تبين بعد ذلك أن أغراضهم لم تكن لوجه الدين أو لزيارة الأماكن المقدسة، وإنما كانت لها أوجه أخرى غلب على أكثرها المنفعة والطمع والرغبة في السيادة والسيطرة، وغلب على بعضها الآخر الرغبة في الاستئثار بمصر.

ويشير الكتاب إلى أن الملك فرانسوا الأول أنشأ في عام 1530 كلية فرنسا في باريس، التي اهتمت بالدراسات الإنسانية، وعين فيها أساتذة متخصصين في اللغة الإغريقية.

أما في بريطانيا، فاهتم مصلحو أكسفورد بدراسة الآداب القديمة ونادوا بضرورة إطلاق الفكر الإنساني بعيدًا عن الكنيسة وقيودها، وسرعان ما انتقل هذا الاهتمام إلى جامعة كمبردج، ولم تكن دول أوروبا كلها مشجعة لهذا البعد الإنساني في الدراسة، فوقفت بعض الدول مثل: إسبانيا وبلجيكا وهولندا في مواجهة هذا التيار، أما أسباب رفض إسبانيا لهذا التوجه فترجع إلى وجود محاكم التفتيش بها، وكذلك في الاراضي المنخفضة.

ولكن سرعان ما أنشئت جامعة ليدن التي أصبحت مركزًا للدراسات الإنسانية الخاصة بالتاريخ والآثار.

وإذا حاولنا النظر بعيدًا بعض الشيء إلى هذه الدعوة الإنسانية سنرى أنها جاءت لمواجهة الدور الذي قام به الباباوات في روما لتشجيع الأوروبيين على محاربة المسلين والإسلام، فوصف البعض منهم الإسلام بأنه طاعون، ووضع البابا نيقولا الخامس (1447-1455) خطة تهدف إلى ضرب المسلمين عُرفت بخطة الهند.

ولكن الصحوة الأوروبية التي كان من أهم أهدافها أن تخرج من تخلف العصور الوسطى، لتدخل إلى العصر الحديث، أو ما عُرف بـ”الرينيسانس” لتغليب النزعة العقلية على اتّباع هوى الكنيسة التي سيطرت على أوروبا بأسرها، وهي الدعوة التي ظهرت على أيدي المصلحين الدينيين من مختلف التوجهات الذين اتفقووا على أن تكون أوروبا “جديدة”، فكان نشاط الرحالة جزءًا من هذا التوجه للدراسة ولظنهم أن مصر غنية بمواردها وبخيراتها.

وقد تعرض الأوروبيون لأنظمة الحكم في مصر، وانتقدوا نظام الحكم عند محمد علي، فقال أحد المستشرقين واسمه كاد ليفين: إن إعجاب محمد علي بالإسكندر الأكبر، واتخاذه قدوة له خطر على مصر، لا سيما وأن محمد علي ربط بين شخصيته والزعماء السابقين حينما قال: “إن مقدونيا أعطت مصر ثلاثة زعماء؛ الإسكندر وبطليموس، وأنا”.

ورغم أن محمد علي بسط الأمن على ربوع مصر، وقال عنه إدمون شارل إن الشرق الحديث كله يدين لمحمد علي بالفضل والمجد. كما عقد الدوق دي موبونسيه مقارنة بين محمد علي ونابليون.

ومع أن العديد من الدارسين انتقدوا طريقة محمد علي في التخلص من المماليك بالمذبحة الدموية في القلعة، فإن بعضهم قال إنها كانت الوسيلة التي أدت إلى لنشر الأمن في البلاد، ومن هؤلاء إدوارد لين.

وعلى كل حال فمن طبيعة الدارسين اختلاف الرأي في الموضوع الواحد تبعًا لاختلاف توجهاتهم الأيديولوجية العقدية والسياسية، فقد كانت أوروبا في ذلك الوقت مفتوحة الشهية للسيطرة على الشرق واستعماره، وكانت تتحين الفرص لتجهض محاولات تحديث مصر، فإذا كان محمد علي قد أنشأ معامل الغزل والنسيج، ومصانع الجوخ والحرير والطرابيش وسبك الحديد ومصانع الاسلحة والترسانة البحرية لبناء السفن الحربية والمدنية وتجديد سبل الزراعة، والاهتمام بالري وإنشاء القناطر على النيل، والاستفادة القصوى مما لدى مصر من موارد، فإن الدول المتطلعة إلى السيطرة والاستعمار لم يكن يرضيها ذلك، فأثارت الكثير من الجدل، الذي يُعرف الآن بالحرب النفسية تمهيدًا لإسقاط الدولة في معركة عسكرية.

ومن واجب دارس التاريخ الحديث أن يُعيد قراءة ما كتبه السابقون من الرحالة والمؤرخين عن مصر ليعيد انتقاء ما يصلح لأن يستمر كفكرة للدراسة، وما يجب شطبه من دفاتر التاريخ، وهذا هو دور المؤرخ العصري في المجتمع.

ميدل إيست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى