روزي بشير: هكذا زوّر آل سعود تاريخ المملكة

 

ثمة عادة يواظب كثير من الحكام على ممارستها، وهي إزالة أي آثار للعهود السابقة لهم بهدف إعطاء الانطباع بأن التاريخ يبدأ بهم، وبهم فقط. ونشهد حالياً قيام أنظمة عربية بمحو أوابد تشهد على وجود أنظمة سابقة لها، وحصر التاريخ ببدايات حكمهم. وآل سعود اشتهروا بذلك، محاولين منح شرعية (زائفة) لحكمهم، وهذا موضوع كتاب «حروب الأرشيفات: سياسات التاريخ في المملكة السعودية» (منشورات جامعة ستانفورد ــ 2020). لقد كتب الكثير عن قيام آل سعود بجرف المواقع الإسلامية-التاريخية في مكة والمدينة، بل وفي الحجاز بأكمله، ونلفت النظر هنا إلى مقالات أحمد زكي اليماني وزير النفط السابق في السعودية في مجلة «الحجاز» الرقمية عن تلك الأعمال الهمجية حقاً. لكن هذا العمل الجديد للكاتبة الأميركية روزي بشير المتخرّجة في جامعة «كولومبيا» وتعمل حالياً محاضرة في التاريخ في «جامعة هارفرد»، ينتقل إلى منزلة أعلى، إذ تناقش موضوع تدمير الذاكرة عبر البحث الميداني المكثف في ما سمّته «حروب الأرشيفات».

تقول الكاتبة في مؤلفها الريادي هذا إن إنتاج التاريخ يعتمد على المحو الانتقائي لبعض الماضي والأوابد التي تدل عليه، بهدف بناء دولة على أسس مستحدثة؛ أي إن الأعمال التدميرية لشهود الماضي هي عمل من أعمال بناء [!] الدولة الجديدة. ومن أعمال [محاولة] مسح الماضي القضاء على المحفوظات أو الوثائق الأرشيفية.

من ضمن ما لفت انتباه الكاتبة إلى مسألة «حروب الأرشيفات»، تصريح وزير الدفاع السعودي السابق سلطان بن عبد العزيز، بتاريخ 6 أيلول (سبتمبر) 2004، رداً على مطالبة الولايات المتحدة بتغيير في المناهج المدرسية السعودية، بالقول، ما معناه: إن الحكومة السعودية ملزمة بالتعاون مع الولايات المتحدة في الحرب على الإرهاب، وقد قمنا بتغيير 7% من محتوى كتبنا الدينية. لكننا لن نسمح بالمساس بكتب التاريخ المدرسية. إن عواقب تصرف كهذا خطيرة للغاية. وقد استمرت القيادة السعودية في هذا النهج باعتماد يوم 23 أيلول عطلة رسمية، بعد ثلاثة أشهر من تصريح وزير الدفاع المذكور آنفاً، وذلك لم يكن مصادفة، كما ترى الكاتبة.

في الواقع، إنّ النخب السياسية في السعودية واظبت بعد العدوان الدولي الأول على العراق على سياسات المحو الانتقائي لبعض الماضي والأوابد التي تشهد عليه، من إزالة الوثائق الأرشيفية إلى هدم الأمكنة المقدسة والعِلمانية، بهدف إحياء ذكرى تشكيل مملكة آل سعود، لفرض رؤيتها للدولة والأمة والاقتصاد، بعدما أضحت التنظيمات الإسلامية المسلّحة التهديد الأكبر لها.

كل باحث في تاريخ آل سعود يعلم تمام العِلم أن تأسيس حكم تلك العائلة تمّ على أسس دينية ولم يكن ممكناً من دون الوهابية التي قدمت الأرضية الشرعية لاستيلائهم على السلطة. لكن فصل الدين عن السياسات التعليمية والثقافية والمكانية هو ما تستكشفه الكاتبة وتسميه العلمنة المتزايدة للدولة السعودية، عبر تجميع أرشيف وطني وإعادة ترتيب الحيّز المكاني في الرياض ومكة، حيث تم توظيف خبراء لصياغة تاريخ (مزوّر بكل تأكيد)، وفي الوقت نفسه العمل على محو تضاريس عمرها أكثر من ألف عام، وإطلاق مشاريع تجارية هائلة، لكن فظة وقبيحة، بهدف إضفاء ماضِ جديد منفصل عمّا سبقه، حتى ليبدو أن تاريخ المدينتين يبدأ مع حكم آل سعود. إذاً، يستكشف هذا المؤلف ما تسميه الكاتبة العلمنة المتزايدة للدولة السعودية بعد العدوان الأنغلو-أميركي الأول على العراق، وتجسُّدِها في جمع أرشيف وطني وإعادة ترتيب الحيز العمراني في كل من مكة والرياض.

وتقول الباحثة إن مؤلفها يركز في بدايته على أهم جوانب الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية في مكة المكرمة في نهاية العهد العثماني، بهدف تقديم رواية جديدة تكشف حقيقة ما شهده هذا العصر التاريخي. وتضيف أنها تكشف من خلاله الطرق التي اتبعتها الدولة منذ عام 1932 لإخفاء ملامح تلك المرحلة التاريخية، من خلال تغييبها عن المناهج المدرسية والمتاحف والمحاضر الأرشيفية. كما يوضح المؤلف كيف اكتسب محو الحقائق التاريخية زخماً جديداً بعد «حرب الخليج» في التسعينيات، حيث أصبح تاريخ المنطقة في تلك المرحلة وسيلة لاستدعاء الشرعية الثقافية والسياسية والاقتصادية بين النخب الحاكمة في المملكة، أو بين النخب وبقية الشعب. ووفقاً للمؤلف، عملت النخبة الحاكمة في المملكة السعودية على الترويج لرواية تاريخية جديدة أكثر «اعتدالاً» لتسويق صورتها كدولة أقرب إلى العلمانية، وكان هذا واضحاً في الرياض، حيث أنفقت ملايين الدولارات على إنشاء المتاحف والسجلات والمواقع التاريخية.

أما خطة ما بعد الحرب، فكانت هدم وإهمال المواقع التاريخية التي لا تخدم رواية السلطات الحاكمة، ومعظمها وقع خارج العاصمة، وخاصة في مكة، حيث يتضح من خلال عمليات الهدم في أحياء مكة المركزية بهدف تغيير معالمها واستبدال المباني الحديثة وناطحات السحاب بالأمكنة التاريخية، أشهرها «برج الساعة»، الذي كلف مبالغ طائلة، ومنع أشعة الشمس من دخول المسجد الحرام من جهة الجنوب الغربي.

ويؤكد المؤلف أن السلطات بدأت منذ مطلع القرن الحادي والعشرين، في خطى متسارعة، بهدم المواقع التاريخية وسط مكة واستبدالها بالمباني الحديثة وناطحات السحاب. هذه المشاريع وغيرها أدت ــ وفق الكاتبة ـــ إلى تشريد عشرات الآلاف من السكان من مختلف الطبقات الاجتماعية والاقتصادية، مقابل تعويضات لا قيمة لها.

بعد هدم العديد من أحياء وسط مدينة مكة، قرر أمير المنطقة خالد بن فيصل تعريب أسماء الشوارع والمباني غير العربية التي كانت شاهداً حياً على التاريخ المراد إخفاؤه، وأن شبه الجزيرة كانت تعيش حالة تخلف قبل دولة آل سعود الذين عملوا على تطويرها وتحديثها.

هنا أضيف اجتهادي بأن لمشروع محمد بن سلمان رؤية 2030 الهدف نفسه، وهو (محاولة) القضاء على الماضي المتخيّل للمملكة وربطه باسمه حصراً!

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى