سليم بركات يُحرّر «سبايا سنجار» فنياً

في رواية «سبايا سنجار» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر)، يُقدّم سليم بركات مقاربة بين أعمال تشكيلية وأحداث سنجار الواقعية. فلا تبدو اللوحات العالمية التي يقضي الكاتب أمسياته محدّقاً فيها هجينة عن الطقس الروائي للأحداث، بل تحاكي لوعة ما كامنة في ثنايا مأساة سنجار وما تمخض عنها من آلام.

تُعبّر تلك اللوحات، المترسخة في ذهن الكاتب، عن المزاج العام ليوميات الرسام السوري الكردي، سارات (الكاتب نفسه)، المقيم في السويد والذي ينوي إعداد لوحة تحاكي أحداث جبل سنجار.

اختار سارات لهذه اللوحة خمس فتيات أيزيديات (من 11 إلى 17 سنة)، ممكن أن يجعل منهن نماذج للرسم، إضافة الى شخوص آخرين مثل الداعية والشيشاني والانتحاري من تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام». لكنّ سارات لم يحسم أمره، لكونه لم يحدد العوامل التي قد يجمعها في لوحة توثِّق معاناة كهذه. بمعنى آخر، لأنه لم يضع مقاربة فنية تفي الفاجعة حقها مما فاقم حيرته. إنّه صراع الألوان مع الأبيض صارخاً بوجع عارم.

واقع وخيال

بين العالم المتخيّل وعالم الرواية الواقعي، يتعرَّف سارات إلى فتيات من سبايا سنجار وإلى شخص عراقي وآخرين: شيشاني وسوري وليبي وأفريقي من تنظيم «الدولة الإسلامية»، لكنّ الكاتب لا يذكر موطنه إنما يدأب على الإشارة إليه باسمه على امتداد الـ445 صفحة من الرواية، وهو لا يستعمل الاسم المختصر للتنظيم (داعش)، بل يردّده كاملاً على امتداد الرواية كأنّه يرغب في التذكير بخطورة هذا التنظيم وإرهابه، من دون الإغفال عن أساليب التنشئة المعتمدة أيضاً: «كان الداعية يستنفرهم في نهاية مواعظه ودروسه:

– ماذا ستفعلون للحصول على كل هذا؟ «نقتل الكفرة»، يردُّ الأطفال بصوت واحد، فيتصنّع الداعية امتعاضًا: – أتقتلونهم بكل تهذيب؟ – «لا»، يصرخ الأطفال هائجين: «بل نقطع رؤوسهم بسكاكيننا»، ويخرج كل واحد منهم سكينه من حقيبته» (ص 139 – 140).

يتنقل الكاتب بين العالم الروائي الواقعي وذاك المتخيل بمهارة ليقابل شخوصه، منهم من هم أحياء يراهم في الواقع، ومنهم من هم أموات يأتونه من العالم الآخر حين يريدون، يرونه قبل أن يراهم.

لقد أجاد الكاتب التنقل بحرفية عالية بين هذين العالمين من دون أن يُشعر القارئ بازدواجية ما، بل كان الانتقال رشيقاً وبلغة جميلة.

تنتقل حيرة سارات إلى أبطال اللوحة المحتملين، فأرادوا أن يعرفوا موقعهم الجديد في سنجار، أو ماذا كانوا ليكونوا في مكان كهذا؟ هم ينتظرون لقاءهم الجديد بالمكان الذي أتوا منه، أو الأصحّ احتمالاتهم الأخرى في سنجار. هكذا يبدو سارات، الواقف في الجهة الأخرى، حائراً بأمره، عليه أن ينصف فاجعة سنجار، فراح يبحث عن طريقة تفي الجبل حقه. تصوّر الجبل حزيناً، للحظة تعجز الألوان والرموز أمامه. هو ببساطة لا يعرف كيف يفي سنجار حقه من الألم، ويكمل البحث والتقليب في المواجع على قاعدة فرضية الرسم.

وفي هذا السياق، نجد أنّ الحوارات التي دارت بين سارات والفتيات الأيزيديات أثرت النص أيديولوجياً، بحيث ساهمت في إلقاء الضوء على المعتقدات الأيزيدية بأبعادها الروحانية والتعريف بها كمزيج من خلاصات الأديان القديمة وعن حقيقة صلتها بالدين الإسلامي. يناقش سارات أيضاً طرق الرسم مع الشخوص (من الدولة الإسلامية في العراق والشام)، على رغم أنّه لم يجزم أنّه سيرسم اللوحة وبقي حائراً في أمره.

يتميّز أسلوب الكاتب بسعة اطلاعه وعمق مقاربته، عبر سبر أغوار ظاهرة تنظيم «الدولة الإسلامية». فإن كان العنوان يشي بأن الرواية تقتصر على سبايا سنجار، إلا أنّ ما وضعه الكاتب بين دفتَي هذه الرواية يتجاوز قضية واحدة، فنجد عملاً فيه الكثير من الألم المجبول بفائض من التنقيب والمعرفة والدراية والشجاعة. فالكاتب لم يكتفِ بالإشارة إلى موضع الألم، ولا حتى بتسمية الأشياء بأسمائها، بل حمل كل تلك المرارة التي في صدر سارات بعدما رأى ما رآه وامتطى السخرية السوداء وسمّى الأشياء بصريح أسمائها: «على صدرٍ واحد في إيران هو صدر وليّ الخراب الفقيه» (…) مواضع محصَّنة من عقل جهاد الخراب… أكثر حصانة من مباني المفاعلات النووية» (ص122).

لا يوفّر سارات، الفنان المثقل بالقضايا الإنسانية وهموم الشعوب، هجاءً لأي من الأنظمة بدءاً من النظام في بلده إلى إيران وتركيا وأميركا، وكل الأنظمة «الاستبدادية» حول العالم.

حلقة مفرغة

تجمع رواية سليم بركات بين الحب، الخيانة، السياسة، القتل، الســبي، الجنس (من تجارة الأجساد إلى احتجاج ناتالي طليقة سارات على خيانة حبيبها لها). إنه عالم كامل يدور بك في كل حلقاته، وللمفارقة فإن كل حلقة من هذه الحلــقات تبدو مـــفرغة. مذهل بالفعل كيف جمع الكاتب كل هذا التناقض المحيط بنا دون أن يوقع نصه في أي شرخ، لا بل خرج بنا النص أمام خيارات نكونها أو لا نكونها، ووضع أمامنا احتمالات ساخنة لمستقبل محموم كنا نخبئه أو نتلافى التفكير فيه.

وفي هذا المجتمع الجزّار والرازح تحت سطوة التطرف، يغدو الوجود عبئاً. وبدلاً من أن يشعر الظالم بذنب ما، صارت الضحية هي من تؤنّب نفسها. تقول كيديما (13 عاماً، من سبايا سنجار) مثلاً: «لو لم أكن موجودة في هذه الحياة لما حصل لي ما حصل».(ص 294).

يتناغم التشكيل والأدب في هذا العمل إلى حدّ كبير. فترى فيه تارة سليم بركات الرسام الموشوم بلوحة رافقته طوال الليل، وما أن يبزغ الفجر حتى يراها مرسومة على جسده لتأتي الرواية وتكمل الحكاية.

وفي الفصل الأخير من الرواية، يدخل كلب منزل سارات فجأة، ويحطم كلّ ما فيه، فكأنه يضع نهاية أو بداية جديدة لكل ما يحدث. حينها يقرر سارات أن يجعل منزله لوحة مزدانة بالألوان وتأخذ الأمور منحى آخر. يرسم سارات لوحته عبر رشق جدار منزله بالدهان من العلب الممزقة وتلك التي حطمها الكلب ليحدث ربما ثورة على وجع رافقه على امتداد النص. وبهذا يكون بركات قد اختار لبطله سارات نهاية ممعنة في التراجيديا.

أما اللوحة الأخيرة التي يرسمها بركات بقلمه، فكانت تلك البحيرة السويدية المليئة بخيم لم تعد تتسع لمزيد من اللاجئين، وأمام كل خيمة رسام. ولكن يبقى السؤال: هل يعود سارات ليرسم لوحته يوماً؟

صحيفة الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى