‘سنوات التيه’ تضع حياة مضطربة في مواجهة موت مشتهى

 

رواية “سنوات التيه” هي خامس روايات الكاتب محمد سليم شوشة، وفي رواياته جميعا يلحظ القارىء عنايته بسرد التفاصيل الدقيقة وأشياء المكان التي تمثل خلفيات للمشاهد، وكذلك سرد ما يعتمل في دواخل الشخصية من انفعالات وخواطر نفسية.

مع حشد وفرة من التفاصيل الخاصة بالسياقات الاجتماعية والثقافية لفضائه السردي، فضلاً عن التوازن الواضح في حضور الشخوص مع وفرة الشخصيات الثانوية التي تمثل مع الأشياء التي ترصدها الكاميرا السردية خلفيات للمشهد السردي، ورغم أن الأحداث تبدو واقعية، إلا أنّ ثمة حضورًا غرائبيًّا يخامرها، هذه السمات الفنية وغيرها أشار لها النقاد في الندوة التي شهدها مؤخرا المركز الدولي للكتاب بالقاهرة، لمناقشة الرواية وأدارها  الروائي والمترجم الدكتور إيمان يحيى الذي أكد على الحضور الفاعل لسليم شوشة إبداعا ونقدا وهو ما تجلى في إصداره لستة كتب في السنوات الأخيرة فضلا عن العشرات من المتابعات والدراسات النقدية.

المشانق خلاصا

منح الناقد والأكاديمي يسري عبدالله رؤيته النقدية للرواية عنوانا دالا هو “المشانق التي تبدو خلاصا لبطلٍ إشكالي”، فالمشانق هي المفردة المركزية في الرواية التي تتواتر على نحو منتظم والبطل الإشكالي هو ماهر جميل، الذي يقف على حافة السؤال والتردد والتمزق المتواتر طيلة الرواية، وهو بطل إشكالي لأنه مسكون بالحيرة والأرق، والارتحال القلق المأزوم في جغرافيا سردية متسعة تضم مصر وسوريا والأردن وغيرها.

ويرى الناقد أن عنوان الرواية “سنوات التيه”، برغم تقليديته  لكنه قابض على جوهر الدلالة السردية، فالتيه الذي يصحب البطل المأزوم في الرواية، ليس محض تيه على المستوى الفردي، لكنه تيه جماعي أيضاً في نص سينهض “فيما يعرف بالبنية العميقة” على جدل السياسي والجمالي أو جدل الفني والأيديولوجي، فالانحيازات الرؤيوية التي يحملها السارد الرئيسي المهيمن على مقدرات النص واضحة منذ المفتتح وحتى الختام، في روايته اختار الكاتب الحكي بضمير المتكلم موظفاً ذلك السرد الذاتي الحامل لمساحات أشد من البوح، وصانعاً في الوقت نفسه حالة من المباعدة الفنية بين النص وشخصية كاتبه.

وأكد الناقد أيضا على أن السارد في الرواية يحكي بضمير المتكلم ليمتلك القدرة على الاختيار الجمالي بين موقفين مختلفين، والبطل المركزي للرواية ماهر جميل مقاتل سوري يزج به في آتون الحرب المستعرة، التي لم يعد يعبأ بها أصلاً، فكل ما يشغله هو سارة، والتي يكفيه فحسب أن يحيا في منطقة يمكث فيها إلى جوار رائحتها حتى لو كانت غائبة، مثلما يكفيه أن يحيا إلى جوار قبر أبيه، مستأنساً بسارة ورائحتها، في منطقة تخلو من القتل والدمار، لكن هذه اليوتوبيا التي يحلم بها تفضي إلى ديستوبيا تتشارك في صنعها تمثيلات نوعية للقبح بداخل الرواية، تمثلها تارة مديحة النهمة للمال، والشرهة لجنس بلا روح.

كذلك سنجد تمثيلات أخرى للقبح مجسدة في قتلة ومتطرفين يصادرون الحق في الحياة، فيصبح بطل الرواية مشغولاً بحقه في الموت، ويتضح لنا أن عصب الرواية الرئيسي هو هذه المواجهة بين ثقافة الحياة وثقافة الموت، ويدخل البطل في تجاربه لمحاولة الانتحار فيما يعرف في علم النفس بصراع الإقدام – الإحجام.

رؤية خاصة

أما د.رضا عطية  فأكد على أن شوشة روائي صاحب رؤية خاصة، وهو في “سنوات التيه” يقوم بالتركيز على التيه الزمكاني للذات، إذ يبدو البطل وكأنه مقتلع من التربة التي نشأ فيها ويرحل لمكان آخر مختلف ثقافياً وبيئياً، وكأن البطل عنده هو بطل افتراضي يعيش أزمة وجودية ما ويعاني من حالة بحث دائم عن الذات، وتساؤل دائم عن الهوية، لذلك نجد البطل في هذه الرواية يحاول الانتحار كنوع من نفى الوجود والتمرد على ذاته.

ولاحظ عطية أيضا وجود سمة ممتدة في روايات شوشة، وهي الغنائية الرهيفة المتدفقة، فالرواية عنده تقوم على ذاتية البطل وكأنه مرآة ينعكس على سطحها وعي الذات بالعالم، وهناك بدايتان لافتتان في الرواية، فهناك تنويه لشخص ما عثر على مخطوط، فيبدو السارد الرئيسي وكأنه يتنصل من كونه بطل الحكاية، أما الإشارة الثانية الملفتة فهى أنه في مستهل الحكاية يتحدث عن ترتيب البطل لتنفيذ محاولة الانتحار بمشنقة أعدها من سلك معدني، وثبتها في مسمار كبير في الحائط المقابل لسريره، وهنا نجد أن أسلوب الكتابة يعطينا بالتعبير الدرامي ما يعرف بضربة البداية.

فالكاتب حريص على أن يبدأ بداية صادمة، تعبر عن أزمة بطل الرواية، وذلك لإثارة التوتر والتساؤل لدى المتلقي والبحث عن سر أزمته، والأسباب التي تدفعه للانتحار. والمؤلف لا يبني روايته بالشكل الكلاسيكي، بل يصدر الحكاية بدءا من ذروة الأزمة، كما أنه أجاد تقديم شخصيات درامية مصدرة للقلق والتوتر، وتبدو على حالات مزاجية متناقضة ومتقلبة، مثل شخصية مديحة، وهى الشخصية الأنثوية المقابلة لشخصية البطل ماهر جميل، فهي في النهار حريصة على المظاهر الشكلية للتدين، ثم في المساء تبدو على النقيض من ذلك.

وأشار الناقد  إلى أن الكاتب اعتمد في البناء السردي للرواية على أسلوب التداعي، حيث أن البطل في بوحه وتدفقه الحكائي يكون حلقات من الاستدعاءات، فمثلاً عندما يتعرض ماهر جميل لأزمة مع مديحة فإنه يستدعي سارة، وكأن هناك سلسلة من التداعيات النفسية التي تعتريه، يتم ترجمتها من خلال السرد، فتظهر متناقضات شخصيته، ورغباته النفسية المتداخلة، فعلى النقيض من الصورة الأولى التي تقدمها الرواية للبطل على أنه إرهابي، يتضح أنه رومانسي وعاشق للفنون وكان له مشروع فني يحلم بتحقيقه. وقد أسهم هذا البناء الفني في تعضيد غنائية السرد بشكل مشوق، وأكسبه درجة من الشعرية.

أما محمد سليم شوشة فأكد في الختام على الاختلاف بين صوت الخطاب الروائي ومصداقيته من جهة، وبين صوت الشخصية الروائية من جهة أخرى، فالنص توجد به عدة بؤر من الأصوات، فبطل الرواية شخص مضطرب ومن الطبيعي أن يتحدث بلغة المظلوم المدافع عن نفسه، والساعي لاجتذاب التعاطف عندما نقرأ شهادته، وهو في النهاية إنسان له كل نقاط ضعفه الإنساني.(وكالة الصحافة العربية)

ميدل إيست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى