صاحب العبقريات يجلي السمات الشخصية للإمام محمد عبده

 

يجلي عباس محمود العقاد في كتابه “محمد عبده” الذي أعادت الدار المصرية اللبنانية طباعته ضمن سلسلة كلاسيكيات بمقدمة للدكتور صلاح فضل وتحقيق د. حمدي النورج، السمات الشخصية للإمام محمد عبده، وما دام الأمر يتعلق بواحد من المصلحين الكبار أو بناة الأمم فلا بد أن يتماس موضوع الكتاب مع الواقع الإجتماعي والظرف السياسي والاقتصادي على إطلاقة، وبخاصة المتعلق بمصر وظروفها السياسية وبنيتها الإجتماعية.

في مقدمته التي جاءت حول شخصية العقاد المفكر والمثقف الرائد قال د. فضل “لأن المصادفة لا تصنع مثقفا، دون إغفال سمات التميز والفروق الفردية والذاتية، فتشريح البنية المعرفية لمثل هذا المثقف، يعني تشريح البنية المعرفية وبدايات التكوين لجيل كامل من المثقفين الكبار الذين حملوا مشاعل النهضة الحديثة على تنوع رؤاهم واختلاف مشاربهم ومشاريعهم، فالعقاد إذا قد تأثر في تكوين اللاواعي بدائرتين مهمتين، الأولى الثقافة الغربية بما قامت عليه من فلسفات وتيارات أدبية ونقدية حديثة، أما الدائرة الثانية فأبعادها تتجلى في الثقافة العربية الإسلامية”.

بينما جاءت مقدمة النورج قراءة في الكتاب، قال “يصرح العقاد في تمهيده بفصل عن عصر اليقظة الذي كان يعني به عصر إنبلاج الفجر بعد الحملة الفرنسية على مصر. غير خاف أن الكاتب الكبير يعتبر الحملة حالة من الإفاقة لا تعني ألبتة أن بذور اليقظة كانت كامنة وبعضها كان مزدهرا مغردا. كان القرن التاسع عشر أحلك ساعات الليل قبل مطلع الفجر. ولما طلع نظر البعض إلى النور، وكان في طليعة أولئك الناظرين البصراء إلى حقائق زمانهم نابغتنا الريفي الأزهري الذي رأى أن التقدم العصري مرهون بعلوم أهملناها”.

وأوضح النورج كيف علم ذلك الشيخ الأزهري؟! في التحري يبحث العقاد عن التنسيب الاجتماعي للشيخ محمد عبده، مقسما هذا التنسيب جغرافيا بحسب المولد والنشأة، ثم الانطلاق والتعليم وثم التربية العلمية والنظر السياسي؛ حيث القرية وقراءة تاريخها مع التأكيد على أن ودائع الخيرية في القرية المصرية لم تنتف أو ترتبط بجاه أو مال أو سعة أو ثراء.. وما دام الشيخ أزهري التكوين، فإن العقاد بصبغة مؤرخ مقتدر يقدم نبذة موجزة عن تاريخ الأزهر الشريف خلال أحلك ساعات الظلام قبل مطلع النهار.

وعن حال الأسرة ومركزها الاجتماعي يكتب العقاد واصفا شبكة من العلاقات والأواصر الاجتماعية بين البلاد وأهلها؛ على تنوعها واتساعها، حديثا يشي برغبة التأكيد التي يحب أن يقدمها ويكشفها العقاد في أن محمد عبده لم ينجبه مكان واحد أو بيئة اجتماعية واحده، بل إنه نتاج مصر كلها شرقا وغربا، في الصعيد والدلتا، وهذه سمة مهمة من سمات المصلحين الذين يحملون هموم الوطن عامة، وتظهر فيهم شخصيات المصريين جميعهم، بل إن الأمر يتضح أكثر لو كان النظر ـ بضرب من الإسراف ـ على المنهج الاستقصائي التاريخي مستفيدا من نقول حية جاءت على أنها حالة التدليل والتثبيت المقنع المتصف بها العقاد صاحب القلم الأوفى في كتابة التراجم واستبطان نفسيات الأشخاص.

بدأ العقاد كتابه بتمهيد أوضح فيه أنه يبدأه بفصل عن عصر اليقظة، يليه فصل عن حياة القرية المصرية في ذلك العصر، يليه فصل عن الجامع الأزهر فيما اتصلت به حياة القرية من رسالته الفكرية والإجتماعية؛ وأضاف “لأننا نقضي من كل هذه التواريخ الثلاثة إلى تاريخ صاحب السيرة، أعظم من أنجبته القرية ونهض برسالة الأزهر في عصره، عبقري الإصلاح والهداية محمد عبده، قدس الله روحه وأعاننا على التعريف بواجبنا من بعده.

وقال “نفتتح به هذه السيرة العطرة ولنبسطها على ما نتحراه في سير العظماء جميعا، صورة نفسية تعنينا منها حوادث الزمن، وما وقع الأمكنة وأرقام السنين بمقدار ما تمثله لنا من ملامح الصورة ومعالم الحياة التى تصورها، وكل ما في هذه الصفحات من أحاديث التاريخ والرواية عن محمد عبده في نشأته وأسرته وصحبته وعوارض أوقاته من مولده إلى وفاته، فالذي نتحراه منه أن يكون عضوا من أعضاء قوة حية، قبل أن نتحراه جزءا من فترات التاريخ، وجزءا من الخريطة الجغرافية، ويملي لنا في مقصدنا أن صاحب هذه السيرة ـ خاصة ـ ينبوع قوة روحانية تطوى عوارض الزمن وصغائر الدنيا فيما تفيض به من حياة إنسانية، يخلص لنا منها بعد تمحيص الجوهر عن نفايات الأوشاب والأخلاط أشرف ما تتحلى به نفس الإنسان في العالم الخالد الذي يذهب بالزبد ويبقى ما ينفع الناس. ولقد تصوف مصلحنا العظيم زمنا في صباه ولا نخاله ابتعد من طريق المتصوفة إلى ختام حياته. وقد درس حكمة الفلاسفة النظريين، كما درس فلسفة المعتزلة وعلماء الكلام ومذاهب الفقهاء من أسرى النصوص ومن أصحاب الـتأويل”.

ورأى العقاد أن الإمام لم يكن قط من “أهل الظاهر” الذين يأخذون بالحرف ويدينون بالتقليد. ولكنه كذلك لم يكن قط من أهل الباطن الذين يفهمون “الباطنية” على أنها رفض للظاهر، وانقطاع عن الواقع، ونبذ للحياة وانصراف عن شواغل المعيشة التي يشتغل بها الأحياء في دنياهم أو يحسبون الباطنية ضربا من “الدروشة” والمسكنة المختارة على مذهب المجاذيب من أبناء الطريق. إنما كان رفضه للظاهر رفضا للقشور وألوان الطلاء، وكان بحثه عن الباطن بحثا عن حقيقة المعنى الصحيح من وراء اللفظ السقيم.

 إنما كان رفضه للظاهر المموه بحثا عن الواقع الذي خلص من التمويه، فهو واقعي عملي في صميم الواقع الذي يصلح للعمل النافع وهو يقترب من وسائل العمل كلما ابتعد عن ظاهر الطلاء والتمويه فيما يتداوله الناس من الأباطيل، وغيره على غير هذه السجية يبتعدون من حياة العمل الواقعية كلما أمعنوا في البحث عن باطنهم المحجوب أو عن خيالهم البعيد. فهو مصلح فيلسوف بكل ما شئنا من معاني الأصلاح والفلسفة”.

وأكد العقاد أن الإمام “مصلح يتصل إصلاحه بالتفكير كما يتصل بالعمل، وهو فيلسوف حين تكون الفلسفة حكمة يروض بها الحكيم نفسه على المسلك الذي ينبغي له كما يراه، والغاية التي يسعى إليها كما هداه الفكر إليها، وهو فيلسوف حين تكون الفلسفة بحثا عن سر الوجود، ورأيا في كليات الحقائق يحيط بأجزائها ويستعان به على تفسير تلك الأجزاء. وقد كان يفهم الفلسفة على هذا المعنى في مستهل حياته العملية حين كان المفكرون يفسرونها على وجوه مختلفة لا تتطابق معناها.

وكان يوما بمجلس على مبارك باشا وزير المعارف وفي المجلس من فضلاء المفكرين الدكتور يعقوب صروف محرر المقتطف، وكان بعض الصحف قد سمى كاتبا من كتاب العصر بالفيلسوف على غير حق في رأى الدكتور صروف، فقال الدكتور: إن الناس قد ابتذلوا هذه الكلمة حتى صاروا يطلقونها على غير أهلها، وتساءل الحاضرون: من يكون الفيلسوف إذن على المعنى الصحيح؟ فقال الدكتور في رواية الأستاذ رشيد رضا: هو الذي يتقن جميع العلوم. قال الشيخ محمد عبده: إذن لا يوجد على الأرض فيلسوف. وعاد الدكتور يقول ما معناه: أنه لا بد أن يتقن علما من العلوم، ويلم بسائرها، فقال الشيخ محمد عبده: إن الذين يتعلمون على الطريقة الحديثة يخرجون من المدارس العالية، وقبلها الثانوية، على إلمام بالعلوم، ويتقنون بعضها. فما أكثر الفلاسفة من الأطباء والمهندسين والطلاب بهذا المعنى! ثم قال: إن الفيلسوف كما يفهمه هو الذي له رأى ومذهب في العقليات والإجتماعيات يمكنه الإستدلال عليه والمدافعة عنه”.

وأضاف العقاد “بهذا المعنى الصحيح من معاني الفلسفة يتضح للأستاذ الإمام مذهب فلسفي مستقل في موضوع الفلسفة العامة، وهو البحث عن الوجود، أو البحث عما وراء الطبيعة على إصطلاح أكثر المحدثين، وتتضح له مع هذه الفلسفة العامة فلسفة خاصة في سائر الإجتماعيات والعقليات: ومنها فلسفة الأدب والفن وفلسفة اللغة والبيان على الإجمال. أما فلسفته فيما وراء الطبيعة فهي فلسفة متصوف إطلع على آراء الفلاسفة التي دار عليها البحث بين المتكلمين والمعتزلة وفلاسفة المسلمين، ثم إطلع على أقوال فلاسفة الغرب في العصور المتأخرة إطلاعا يمكنه من الجمع بينها وبين ما يشبهها من أقوال المتقدمين، وقلما إستحدث فيما بعد الطبيعة شىء من جانب المعاصرين لم يسبقهم إليه الأوائل في أمهات المسائل، وإن أضاف إليه المعاصرون ما أضافوا من مصطلحات العلم الحديث”.

وأشار العقاد إلى أن استقلال الشيخ محمد عبده بالفكر والنظر، ثم استقلاله بالعمل في الإصلاح يفردانه بمذاهبه بين مدارس الفلسفة الإسلامية، فلا يتيسر ضمه إلى طائفة منها يسمى باسمها، وينفصل بذلك عن سائرها. فهو مع الفلاسفة المعتزلة في تحكيم العقل والقياس على المنطق والعلوم الكونية ولكنه يخالف رأي الفلاسفة في فهم معنى الوجود، ومعنى العلوم بالنسبة إلى الحقيقة الإلهية، ويخالف رأي المعتزلة في مجادلتهم العقيمة حول مسألة الصفات وما تفرع عليها من الكلام عن خلق القرآن. وهو مع المتصوفة في رياضتهم النفسية والفكرية ولكنه يرى أن إلهام المتصوف “ذوق” وجداني لا يجوز له أن يدين به غيره. ولا ينكر أن لهم أذواقا خاصة وعلما وجدانيا، فإن هذا الذوق يحصل للإنسان في حالة غير طبيعية، وكونه خروجا عن الحالة الطبيعية لا يجيز أن يخاطب به المتقيد بالنواميس الطبيعية.

 وشبيه بهذا رأى الطب ـ على قول ابن سينا ـ في علاج من كانوا يعرضون عليه من المصابين بمس الجن أو الأرواح الخفية. فإنه كان يعالج الأعراض الجسدية بما يناسبها من الأدوية الجسدية، ولا شأن في علاج الآثار الطبيعية بما كان لها من المؤثرات غير الطبيعية، أيا كان منشؤها.

ولفت إلى أنه قد يحيط بالفلسفة الإلهية في مذهب الأستاذ الإمام محمد عبده من يقرأ تعليقاته على العقائد العضدية، ومناقشته في حاشيته للإمام عضد الدين الأبجي، والإمام جلال الدين الدواني في شتى المسائل التي تقوم عليها اليوم فلسفة ما وراء الطبيعة عند الفلاسفة المعاصرين. مضافا إليها مسألة الصفات التي لم يطرقها هؤلاء المعاصرون. وأيسر من هذه الحاشية ـ لمن يقرأ كتب الفلسفة السلفية ـ رسالته القيمة في التوحيد، وتفسيراته للآيات القرآنية من دروسه في الجامع الأزهر. وفيها بيان جلي لكل مسألة من تلك المسائل التي يقل فيها الجلاء ويكثر فيها الغموض في كتب الأقدمين.

وأضاف العقاد أنه إذا أردنا أن نجعل لفلسفة الأستاذ الإمام حدا فاصلا بينه وبين مخالفيه من جماعة المعتزلة والمتكلمين والفلاسفة الأقدمين ـ فالحد الفاصل هنا هو القدرة على حسم الجدل العقيم بالرجوع إلى حكم العقل السليم، أو هو القدرة العلمية على حل المشكلات العقلية، ولا سيما المشكلات التي لا داعي للإشكال فيها غير الوقوف عند اللجاجة اللفظية، والعجز عن تقرير معناها أو غير التهالك على الزبد وترك ما ينفع الناس.

وأقرب الآراء إلى الأستاذ الإمام آراء حجة الإسلام أبي حامد الغزالي رضوان الله عليه، فهو قريب في كل ما ابتعد به الفهم بينه وبين الفلاسفة أو المعتزلة أو المتكلمين، وليس بينه وبين حجة الإسلام من خلاف يذكر إلا كان ـ على الأكثر ـ من قبيل الاختلاف في الدرجة دون الجوهر. فإن الأستاذ الإمام لا يشتد على الفلاسفة اشتداد حجة الإسلام، ولا يقول بالتكفير حيث يتأتى المخرج المقبول، ولو ببعض الصعوبة في التأويل.

 

   ميدل إيست أون لاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى