قراءة الرواية في زمن مضطرب

 

يضم كتاب “الرواية في زمن مضطرب” بين دفتيه مجموعة من الدراسات النقدية، حيث يقول مؤلفه د. فهمي عبدالسلام: “إنها ليست دراسات بالمعنى الأكاديمي للكلمة، لكنها قراءات في عدد من الروايات التي فُتنت بها، وقرأتها العديد من المرات، ووجدتها في كل مرة تزداد روعة وألقاً، وكتبها روائيون عظام ينتمون إلى جيل عمالقة الأدب، وهم نجيب محفوظ وفتحي غانم ولويس عوض ويوسف إدريس، والساخر العظيم محمود السعدني“.

وكان من الطبيعي أن ينال الأديب الكبير نجيب محفوظ اهتماماً فائقاً، حيث يعتبره المؤلف قامة لا تقل عن أساطين الأدب في العالم عبر التاريخ، فهو لا يقل عن شكسبير وديستوفسكي وتشيكوف، فيضم الكتاب أربع دراسات في أدب محفوظ، دراستان عن “المرايا” ودراسة عن “اللص والكلاب”، والرابعة عن رواية “ميرامار” حيث يقول عنها: ”المرايا تحفة أدبية عظيمة، وأحببتها بشكل خاص؛ لأنها سيرة ذاتية لصاحب نوبل، وهي بانوراما وجدارية هائلة تتكون من بورتريهات بديعة لأربع وخمسين شخصية، ونشرها الراحل الكبير في مجلة الإذاعة والتليفزيون في حلقات، ورسم الفنان الكبير سيف وانلي لوحات رائعة لشخصيات المرايا، وتوقف يحيى حقي عند المرايا، وأثنى عليها لنصاعة الفكرة، والتناول الباطني للشخصيات، والقدرة العظيمة للتنقل من السرد إلى الحوار، ووجدت نفسي لا أرتوي من قراءة المرايا.

رواية “العنقاء” هي الرواية الوحيدة للويس عوض، وكتبها عام 1954، لكنها لم تصدر إلا في السبعينيات، وتضاربت الآراء بصددها، واعتبرها توفيق الحكيم رواية عبقرية

وقال أحد محبي صاحب نوبل عن المرايا: إن محفوظ قال له عن المرايا: “كنت أنتوي أن أكتب سيرة ذاتية، وكنت أفكر أن عندي مادة كبيرة لشخصيات في ذهني، وعند الكتابة لم أجد سوى سطور قليلة، والعكس صحيح. شخصيات لا أكاد أتذكرها، وعند الكتابة وجدتها تضج بالحياة؛ لهذا ضحيت بالحقيقة وبالسيرة الذاتية لصالح الفن”.

يقول المؤلف: قررت أن أكتب عنها خمسة مقالات بعنوان: “مرايا نجيب محفوظ مرايا صادقة لأحزان الوطن”. وبدأتها بواحدة عن دنيا الوظيفة وعالم الموظفين، واهتمام محفوظ بالموظفين يتجلى في تحفته “حضرة المحترم”، وفي المرايا أعاد محفوظ اهتمامه بالموظفين عندما كتب عن وظيفته والنماذج التي قابلها وزاملها عندما كان يعمل في وزارة الأوقاف.

أما الدراسة الثانية فهي تخص الأدباء والكتاب والمثقفين، فلم يكن من المعقول أن يكتب محفوظ – وهو المنخرط في الوسط الأدبي والثقافي منذ الثلاثينيات – عمّن عرف من الشخصيات ولا يكتب عن المثقفين والكتاب الذي عرفهم، ومن خلال بورتريهات المرايا، قدم لنا الانتهازيين والنبلاء واليساريين ولم ينس أن يقدم صورة قلمية لسيد قطب، اختار لها اسماً مستعاراً (إسماعيل الحلواني)؛ لذا كتب الناقد الدراسة الثانية عن أهم الشخصيات في الوسط الثقافي والأدبي الذي عرفهم عن قرب، والثالثة – لم يكتبها – عن زملاء محفوظ في المدرسة والجمالية والعباسية وقد تجاوروا منذ طفولتهم حتى الوفاة والمعاش، ورابعة عن عشيقات أديبنا الكبير كما كتب عنهم، والخامسة بعنوان شخصيات متفرقة.

المقال الثاني الذي كتبه لمجلة ”الهلال” كان عن رواية “اللص والكلاب”، فهي الرواية الأولى التي كتبها محفوظ بعد توقفه عن الكتابة لمدة خمس سنوات، وكان قد انتهى من نشر الثلاثية، فقامت الثورة وتوقف محفوظ عن كتابة الروايات وانشغل بكتابة السيناريو، وكان توقفه لأنه وجد أن الثورة بتطبيق وبتحقيق المطالب الاجتماعية قد حققت – تقريباً – ما كان يأمل في تحقيقه من العدالة المنشودة، وعاد بعد خمس سنوات ليكتب بعد التوقف الطويل “أولاد حارتنا” ثم “اللص والكلاب”.

ويطالع القارئ عدة دراسات وقراءات في أعمال قامة عظيمة من القمم الروائية من جيل العمالقة، سنجد الأديب الكبير فتحي غانم العديد من الدراسات في أعماله الخالدة، وحيث كتب الناقد عن رواية “الجبل”، التي كانت أول أعماله الروائية، التي نشرتها روزا اليوسف على حلقات، وكانت بداية رائعة تنبئ عن كاتب موهوب قدير، حيث يجد القارئ عمق الرؤية والهم الوطني والالتزام الاجتماعي والصدق الفني، وهي تتناول سكان قرية القرنة (الجرنة) في الصعيد، ويعيشون في الجبل، وتبنى لهم الدولة قرية نموذجية ولكن السكان يفضلون جحورهم في كهوف الجبل، ويقاومون السلطة في عناد، فيذهب المحقق فتحي غانم – الذي كان يعمل بالفعل في إدارة التحقيقات بوزارة من الوزارات – ليحقق في القضية، فيعود لنا برواية فذة لفتت إليه الأنظار.

أما رواية “العنقاء” فهي الرواية الوحيدة التي كتبها المفكر الكبير لويس عوض، وكتبها عام 1954، لكنها لم تصدر إلا في السبعينيات، وتضاربت الآراء بصددها، واعتبرها توفيق الحكيم رواية عبقرية – في المقدمة البديعة التي قدم بها الرواية – لو صدرت العنقاء والكلام مازال لتوفيق الحكيم، بعد كتابتها مباشرة (عام 1954) لكانت غيرت مسار الرواية المصرية، ولغيرت معها توجهات لويس عوض.

وفي الكتاب قراءة في رواية يوسف إدريس الوحيدة الصادرة عام 1958، والتي نشرت في الثمانينيات، وهاجم اليساريون الرواية بضراوة، وهاجموا انتهازية يوسف إدريس، واتهموه بأنه يتنصل من يساريته وانتمائه للتنظيمات اليسارية كيلا يزج به في المعتقل، وأنه باعهم لينجو، وقد يكون كل هذا به شيء من الحقيقة، لكن – كما سيرى القارئ – شخص يوسف إدريس الأمراض الشائعة في ممارسات التنظيمات اليسارية السرية في ذلك الزمان.

أما آخر الأعمال فهي للكاتب محمود السعدني وهي مذكراته عن فترة اعتقاله مع الشيوعيين في ليلة رأس السنة إياها! ويقدم السعدني صورة فكاهية للمفارقات العجيبة في تلك الحبسة، واسمها يدل عليها “الطريق إلى زمش” وكانت المنظمات اليسارية تطلق أسماء التنظيمات بكلمات تتكون من الحرف الأول من كل كلمة فمثلاً “حدتو” هي اسم حركة ديمقراطية للتحرر الوطني، ووحدة الشيوعيين هي “وش”، وطليعة الشيوعيين هي “ط ش”. إلى آخره، وكون السعدني تنظيماً أطلق عليه “زمش” وهي اختصار لـ “زي ما انتا شايف”، والسعدني يضحكنا على الشيوعيين وعلى المعتقل، لكنه ضحك كالبكاء.

ويقول المؤلف: “كل مقالات الكتاب نشرت في مجلة الهلال وكلها عن  أعمال كتبها عملاق من عمالقة جيل العمالقة، وصدرت كلها منذ ربع قرن – وربما أكثر – من الزمان، ولم يلتفت معظم الأجيال الشابة لها بحكم الزمن، ولعل في القراءات التي قدمتها لتلك الأعمال، ما يدفع الشباب لقراءة تلك القطع الأدبية الفريدة، ومعرفة تاريخ بلادهم السياسي في ذلك الزمن المضطرب، من كبار كتابنا، وليتعلموا – كما تعلمت منهم ومن أعمالهم – أسرار صناعة الكتابة الروائية”.

يذكر أن كتاب “الرواية في زمن مضطرب” للدكتور فهمي عبدالسلام، صدر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة بالقاهرة .

ميدل إيست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى