كارلوس زافون في “سجين السماء”: على خُطَى ألكسندر دوما

 

بعدَ صدورِ الجزء الثّالث من رباعيّة “مقبرة الكتب المنسيّة” عن منشورات الجمل(2018) لكاتبها الإسبانيّ كارلوس زافون، ترجمها إلى العربية السوريّ معاوية عبد المجيد. وبعدَ السحرِ الذي أشاعهُ نشرُ الجزأين السّابقين، “ظلّ الريح” و”لعبةُ الملاك”، يُكملُ زافون في الجزء الجديد “سجين السماء” براعتهُ في فنّ السرد، ويعود ليُبرهنَ على قوةِ تماسك سلسلتهِ وقدراتهِ اللامحدودة على التخيّل، الذي يعدّ عنصرَ السلسةِ الأهمّ وعمودها الأعظم.

تبدأ أحداثُ الرواية بعد الحرب الأهليّة الإسبانية (1936 – 1939) والتي ألقتْ بثقلهَا على إسبانيا كما لو كانت الحرب العالمية ذاتها، في وقتٍ كانت فيهِ البلاد تخرجُ  لتوّها من العزلة، بعدَ أن يظهر رجلٌ غريبٌ فجأةً في حياة (سيمبري) وداخل جدران مكتبتهِ العريقةِ. رجلٌ يحاول نبش الماضي وإعادةَ إحياءِ سرٍّ خفيٍّ يحملهُ من زمن الديكتاتور فرانكو، وهو سرّ يكمنُ في وجودِ كنزٍ مفقودٍ قديمِ العهد داخلَ مقبرة الكتب المنسيّة.

يبدأ عنصرُ المفاجأة ليقلبَ كيانَ الصفحات بين يدي القارئ، حيثُ تتوالى من البداية، ودون أن يخفى على قارئ السلسة من بدايتها، رومنسية الوتيرة التي تبدأ بها الرواية في أجواءٍ تحفل بها إسبانيا بتحضيرات عيد الميلاد، وفي جوٍّ يضفي على النصّ القداسةَ والمهابة الممزوجةَ باستعداداتٍ رتيبةٍ وتقليدية تمهدُ لزواج بطل هذا الجزء بلا منازع “فيرمين روميرو دي توريس”. ليبدو ظهورُ الرجل الغريب بين رفوف المكتبة كتهديدٍ غير مباشرٍ ونهمٍ للإفصاحِ عن الحقيقة التي أخفاها فيرمين والتي تتكشفُ عن كونهِ هارباً من سجون برشلونة المظلمة، ومن قلب قلعةِ (مونتويك) التي تُشرفُ على هضبةٍ تُثقلُ بظلالها على المدينة الكئيبة في فترات الطغيان.

يعودُ الكاتب بالأحداثِ على لسان فيرمين الذي يقصّ على دانيال حال الأحداث في فترة ما بعد الحرب الأهلية الإسبانية (1939) وحتى ما بعد نهاية الحرب العالمية الثانية (1945) وكيف قضى  البائس سنوات سجنهِ السياسيّ بين زنازين تلك القلعة المرعبةِ، ليتكشَّفَ فيما بعد حولَ صديق عائلة سيمبري “الأثير – فيرمين – والذي تعرّف إليه دانيال كمتشرّدٍ تحت أحد الجسور في برشلونة، حقيقة كونهِ حارساً مكلّفاً لِـ”دانيال” منذ طفولتهِ وبناءً على وعدٍ قطعهُ لصديقٍ داخلَ جدران القلعة، هذا الصديق الذي يظهر تحت اسم دايفيد مارتين ككاتبٍ محتجزٍ بجرائمَ ملفّقةٍ لغايات تُظهرهَا خيوط الحكاية في النهاية.

دافيد مارتين الكاتب السجين، يُعتبر بحدّ ذاته رواية مستقلةً، يساعدُ فيرمين على الهرب بعد أن يقصّ عليه حكاية كونه صديقاً مقرّباً لِـ”إيزابيلا” والدة دانيال، ويسردُ لهُ عن أوقاتٍ عصفت بها الفاشية بالعبادِ وَالبلاد.

تتصاعدُ أحداث الرواية الجميلة، في تشويقٍ أجمل، وبعكس الجزأين السابقين، حيث يركز الكاتب فيها على اللغة الشاعريةِ الممزوجةِ بحسٍّ دراميّ فكاهيّ تهكّميٍّ، وعلى الرغم من قصر هذا الجزء قياساً بما سبقهُ، من حيث عدد الصفحات، إلا أنّ أحداثهُ البسيطة تشدّ القارئ وتجذبهُ لإكمال الأحداث صفحةً تلو الأخرى، متلهّفاً لما سيحدث تالياً، من دون أن يتخلّى زافون عن عبقريتهِ في مواصلةِ حبك الأحداث بمهارةِ جنّيّاتِ الكهوف وَسحرَة العهد القديم، مما يجعل لسان القارئ ينطق بتلهفٍ وماذا بعد؟

إضافةً لقدراتهِ الساحرة على الإمساك بمخيّلة القراء وربط تتابع السلسة بمنطقيةٍ تبطن الأحداثَ ببطانةِ برشلونة، المدينة الرومانسية التي يُحافظ على إظهار جمالها برغم اتّشاحها بالحزن والسواد اللذان طوّقاها في فترة الحرب والندوب التي لازمتْ وجهها فيما بعد.

الترجمة الرائعة التي قدّمها معاوية عبد المجيد تمنح القارئ الفرصةَ ليستشعرَ النكهةَ التي أرادَ لهُ زافون تذوّقها، لتظهرَ من خلالها ثنائيات المآسي والإثارة البوليسية، الحب والخيانة، الجشع والطمع، بين جدران مدينةٍ يموت فيها المرء لمجرد أنهُ خلقَ فيها من دون أن يتكلف عناء البحث عن سبب آخر.

وحيث يلعب روتين السرد المحبّب دوره في الأجزاء الثلاثة، يبرزُ من جديد طرف السلطات الخبيث الذي يستمرئ حيوات الأبرياء لمآربَ خاصة، وهو الجانب الذي يمثل طرف الشرّ المتّشحِ بالفساد والبريق الزائف للحكومة المتمثلة بشخصية ماوريسو فايس مدير سجن قلعة مونتويك، والذي يظهر على شكلِ شخصٍ ذي إلهامٍ أدبيّ متواضع. كان يعملُ سكرتيراً ومدبّر شؤونٍ لأديب محليّ محدود الشهرة، يُزجي أوقات فراغهِ في الترجمة بأسلوب مبتذلٍ لأعمالٍ كلاسيكية، إغريقية ولاتينية، ينظمُ أمسياتٍ داخل صالوناتٍ يحتشد فيها كبار القامات الرفيعة، بحيث تسير حياته بلونٍ رماديّ مرير يتبع لأولئك الفاشلين الذين باركهم الرب الجائر بهذيان العظمة وغطرسة العمالقة. شأنه شأن كل الأدباء المفتقرين للموهبة، يعمد بعد استلام إدارة السجن لجذب السجين “دايفيد مارتين صديق إيزابيلا، ويُرغمهُ على كتابة عملٍ عظيمٍ يرفعُ من مكانتهِ الأدبية ويسمح له بارتقاء أولمب الجوع والحظ الأدبي السامي الذي لطالما أرادَ بلوغه.

وعلى طريقة ألكسندر دوما، الأديب الفرنسيّ الشهير، يرسم الكاتب درب النجاة لفيرمين بطريقة الكونت مونتي كريستو، وبمساعدة دايفيد مارتين، يشهق القارئ خلف الأحداث، كما لو كان يبحث عن حجر الفلاسفة، تحت سماء مدينة برشلونة القرمزية السوداء، المنسوجة بأجسادٍ قاتمة، يبيّن فيها الكاتب يقين أبطال الرواية بحقيقة أن الربّ هجر البلاد، والسماء تعامتْ عمّا حلّ بهم من ظلم، لتتمايز فيما بعد – بعد النجاح في الهروب من سجن القلعة –  جوانب في شخصية فيرمين، ظلت خبيئةً خلال الجزأين الفائتين، وفي فرصةٍ أنقذهُ فيها بعض الغجر الفقراء الذين يقطنون قاع المدينة وأحياء الصفيح فيها، لتظهرَ معاناتهم في ذلك الجزء المنسيّ المهمل، المنهمك في مظلمة العيش بين يدي سلطاتٍ لا ترحم، في واحدة من حكايات مدينة برشلونة الحزينة.

يلجأ بعد ذلكَ العائد إلى الحياة من بين الأموات، إلى قسّ، صاحب أعباء دينية وهموم اجتماعية تكشف عن الجانب السماوي الإلهي الخفيّ داخل فيرمين والذي يحاول إخفاءهُ بنزعةٍ إلحاديةٍ جامحة، لتضعهُ الصّدف مجدداً بين يدي الخادمة روسيتو، والتي ينقذها من قوّادٍ كان يقوم بضربها وظلمها في الشارع وعلى مرأى من الناس. وبين يديها، يعود فيرمين الذي ذاق مرارة الحياة وقسوتها لطفلٍ صغيرٍ.

في الجزء الأخير من الحكاية، ينبتُ الشكّ في قلب دانيال بعد أن يكتشفَ رسالة مُخبأة إلى زوجتهِ بياتريز، والدة طفلهِ الذي أسماهُ خوليان تيمناً ببطل الجزء الأول من الرباعية، مرسَلةً ًمن قبل خطيبها السابق والذي تتكشف الأحداث عن علاقته المباشرة بالمجرم ماوريسيو فايس بعد أن صار رجل دولة على مستوى رفيع.

تتسلسل الأحداث بترتيب شبيهٍ بمتاهة، كما لوكان الكاتب يتلاعب بمخيلة القارئ وذاكرتهِ، وبنفس مهارة الجزء الأول، الذي رُكِّز فيه على سيمبري الأب وابنه دانيال وأصدقائه، يعود زافون لتطبيق آلية (الفلاش باك) في سرد تفاصيل الحكاية، والنكوص إلى ماضٍ يسردُ الحاضرَ باحترافيةٍ عالية، محافظاً على تسلسلٍ مترابطٍ، برغم اتصاف الأجزاء الثلاثة بالاستقلالية، وإمكانية قراءتها بشكل منفصلٍ كلّ على حدة.

وإلى حين صدور الجزء الرابع والانتهاء من ترجمتهِ تحت عنوان “متاهة الأرواح” كما أعلن المترجم، تبقى رباعية “مقبرة الكتب المنسية” ملحمةً ترافقنا كما لو كانت كهفاً للألغاز الأزلية، ربما نظنّ أننا فهمنا وأدركنا كُنهَهَا، لكنه بلا شكّ سيبقى كُنهاً ناقصاً غامضاً يكتنفُ ما بقي عالقاً من أسرارٍ من مثلِ ما يخيم حول ضريح إيزابيلا، وعن سبب اختفاء دايفيد مارتين المفاجئ، تاركاً التساؤلات المبهمة حيال إمكانية قيام دانيال بالانتقام لوالدته من قاتلها “فايس” وهل ستكون هناك علاقة أو صلة بين مارتين والرسائل التي تصل لبياتريز من خطيبها السابق؟

تساؤلاتٌ يتشهّى القارئ اكتمالها في مخيلتهِ وتنتظر النضوج والإشباع بتلك النكهة التخيلية السحرية التي دفعت النقاد والقراء للانقسام حول ما إذا كان هذا الجزء يندرج تحت مسمى أدب السجون أم أنهُ عملٌ يتصف بحكايات الرعب القوطية، أو حتى دفع الكثير لاعتبارهِ عملاً لا يُختلف على اعتباره جزءاً من الأعمال الواقعية السحرية. كلهُ يكتملُ بعد صدور “متاهة الأرواح” للإجابة عن جميع تلك التساؤلات والالتباسات.

يُذكر أن كارلوس زافون (1946) هو سيناريست وروائيّ إسباني من مواليد مدينة برشلونة، يقيم في الولايات المتحدة الأميركية، وقد نشر روايته الأولى عام 1993 تحت عنوان “أمير الضباب” ونال عنها جائزة Edebe لأدب الناشئة والأطفال، وحصدت روايته “ظل الريح” جوائز دولية عدة وبيعت منها ملاين النسخ حول العالم.

أما معاوية عبد المجيد فهو مترجمٌ سوريّ من مواليد مدينة دمشق (1985). درسَ الأدب الإيطاليّ في جامعة سينا للأجانب كما درّس اللغة الإيطالية في المعهد العالي للغات في جامعة دمشق (2011-2012). حصل على شهادة الماجستير في الثقافة الأوروبية، كما حصل على جائزة جيرارد ودا كريمونا لترويج الترجمة في حوض المتوسط عام 2018. ترجم العديد من الأعمال الأدبية منها “صديقتي المذهلة” و”لا تقولي خائفة” لجوزبّه كاتوتسيلا، إضافة إلى ثلاثة أجزاء من رباعية “مقبرة الكتب المنسية”.

الميادين نت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى