كامب دايفيد بداية…. التخلّي

ثمة اجتهاد يرى أن مصر، على عكس دول عربية أخرى، لم تتدخل يوماً في الشؤون الفلسطينية الداخلية. على عكس سوريا والعراق وليبيا مثلاً، لم تنشئ مصر تنظيماً موالياً لها في الساحة الفلسطينية. لكن الحقيقة التاريخية مختلفة. تدخل الدولة المصرية، إما على نحو واضح أو خفي، في الشؤون الفلسطينية كان كبيراً. وقد أشرنا في منابر أخرى إلى دورها عام 1967 في عزل الراحل أحمد الشقيري رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية الذي رفض الانخراط في تسوية على حساب حقوقنا في بلادنا، وفرضها قيادة مطواعة لسياساتها التسووية، وإن عبر الضغط الخفي والحريري. كما أننا لا ننسى ما يسمى «اتفاق العوجة» بين مصر والعدو الصهيوني الذي أشرنا إليه في منبر آخر في «الأخبار».

يضاف إلى ذلك خذلانها أهل غزة عندما انسحبت من القطاع عام 1956 تاركة أهلنا هناك عزلاً في مواجهة العدو، والأمر ذاته تكرر عام 1967 ومن ثم التخلي عنهم نهائياً في اتفاقيات كامب ديفيد وملحقاتها العلنية والسرية (سرية عمن؟). التدخل الآخر للدولة المصرية في الشؤون الفلسطينية الداخلية كان عبر مطالبتها زعامة منظمة التحرير بتبني برنامج تسووي، وإن مخفي في ثنايا جمل حماسية فارغة المضمون، بل تضليلية من نمط «منظمة التحرير «تناضل» بكافة الوسائل وعلى رأسها الكفاح المسلح لتحرير الأرض الفلسطينية وإقامة سلطة الشعب الوطنية المستقلة المقاتلة عل كل جزء من الأرض الفلسطينية التي يتم تحريرها. وهذا يستدعي إحداث المزيد من التغيير في ميزان القوى لصالح شعبنا ونضاله… تناضل منظمة التحرير ضد أي مشروع كيان فلسطيني ثمنه الاعتراف والصلح والحدود الآمنة والتنازل عن الحق الوطني وحرمان شعبنا من حقوقه في العودة وتقرير مصيره فوق ترابه الوطني… إن أي خطوة تحريرية تتم هي حلقة لمتابعة تحقيق استراتيجية منظمة التحرير في إقامة الدولة الفلسطينية الديمقراطية المنصوص عليها في قرارات المجالس الوطنية السابقة… النضال مع القوى الأردنية الوطنية لإقامة جبهة وطنية أردنية فلسطينية هدفها إقامة حكم ديمقراطي في الأردن يتلاحم مع الكيان الفلسطيني الذي يقوم بنتيجة الكفاح والنضال… منظمة التحرير (تناضل) لإقامة وحدة نضالية بين الشعبين وبين كافة قوى حركة التحرر العربي المتفقة على هذا البرنامج… على ضوء هذا البرنامج تناضل منظمة التحرير من أجل تعزيز الوحدة الوطنية والارتقاء بها إلى المستوى الذي يمكنها من القيام بواجباتها ومهماتها الوطنية والقومية… تناضل السلطة الوطنية الفلسطينية بعد قيامها، من أجل اتحاد أقطار المواجهة في سبيل استكمال تحرير كامل التراب الفلسطيني، كخطوة على طريق الوحدة الشاملة… تناضل منظمة التحرير من أجل تعزيز تضامنها مع البلدان الاشتراكية وقوى التحرر والتقدم العالمية لإحباط كافة المخططات الصهيونية والرجعية الإمبريالية… على ضوء هذا البرنامج تضع قيادة الثورة التكتيك الذي يخدم ويمكن من تحقيق هذه الأهداف» (مقتطفات مما يسمى «البرنامج المرحلي»). لينتهي الأمر ليس فقط إلى الاعتراف بالعدو الصهيوني وقبول اغتصاب فلسطين، بل يحتمي به أيضاً. أمر تم عام 1974 بتبني المجلس الوطني الفلسطيني، الذي تم «ترويضه» أيضاً عبر إغراقه بالأعضاء «المستقلين» (مستقلين عمن عينهم!؟). دور الدولة المصرية في فرض هذا البرنامج التسووي الذي أعلن على الملأ، انحراف الزعامات السياسية الفلسطينية عن الطريق السوي والانخراط في مساومات مع العدو قادت إلى ما نحن فيه من خراب يتجلى في موقف «بطل» كامب ديفيد أنور السادات الذي عبر عن حد أدنى من رضائه على هذا المشروع الانهزامي.

الطعنة التي أريد بها أن تكون قاتلة من النظام المصري أتت مجدداً بزيارة السادات لكيان العدو معلناً الاعتراف به من دون شروط، ومن ثم توقيع اتفاقيات كامب ديفيد التي طمست الحق الفلسطيني وحولته من حقه في وطنه إلى حكم ذاتي محدود. هذا الأخير علق عليه أحد الكتاب الصهاينة بالقول إنه يمنح الفلسطينيين حقوقاً أقل من تلك العائدة لسكان البانتوستنات في دولة جنوب إفريقيا العنصرية. أما مناحم بيغن، فقال تعليقاً: «إن الاتفاقية تمنح العرب الساكنين في يهوذا والسامرة حكماً ذاتياً محدوداً». لقد أدت السياسة المصرية تجاه فلسطين وابتعادها عنها واستبدال ارتباطها بالمعسكر الغربي الاستعماري بالمعسكر الشرقي الذي كان خير صديق لقضايانا الوطنية والقومية إلى خلق ظروف جديدة في المنطقة، وإلى تمرير التسويات على حساب حقوقنا في وطننا. بل إن ذلك الاتفاق قاد أيضاً إلى مشاركة مصر العدو الصهيوني في حصار غزة، ووصل في وقاحته إلى دعوة رئيس نظام العسكر فيها إلى سلام دافئ بين العرب وكيان العدو. هذا ملخص كتاب «منع قيام دويلة فلسطين: تاريخ سياسي من كامب ديفيد إلى أوسلو» (PUPــــ 2018) لسيث أنسيسكا، أضفت إليه حقائق تجنب الكاتب ذكرها، الذي يوضح ببعض الإسهاب أن مسار التخلي عن حقوقنا في بلادنا كان نتيجة اتفاقية كامب ديفيد التي جعلت من إمكانية تحرير الشعب الفلسطيني أمراً مستحيلاً، من دون أن يعني ذلك قبولنا بكل استنتاجات الكاتب الأميركي.

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى