«مد وجزر» لـبديعة الهاشمي… لعبة المحو السردي

جاءت مجموعة «مد وجزر» للقاصة بديعة الهاشمي تحمل تجنيسها السردي (قصص قصيرة جدًا) وهي صدرت عن دائرة الثقافة بالشارقة في ١٠٠ صفحة لتضم 52 نصا قصصيا. ومن مفردتي عنوانها المنتمي إلى ظاهرة طبيعة متحركة يجد القارئ أن قصص المجموعة تأثرت بتلك الطبيعة وانساقت تبعًا لذلك منشطرة إلى ثنائيات أبعد من المد والجزر، ثنائيات متعددة؛ كثنائية الرجل والمرأة، الطفولة والكهولة، اليقظة والغفلة، الذكاء والغباء، المغادرة والعودة، الثبات والتحول…إلخ، عدد لامتناه من الثنائيات التي تحيلنا للثنائية الكبرى، ثنائية العنوان الرئيس «مد وجزر» مما يدعونا إلى توجيه القراءة نحو الحيز البيني عاثرين فيه على كم من العلاقات السردية المتحركة تعاضدا تارة، وتنافرا تارة أخرى.

تلك العلاقات غير مستقرة لها طابعها الحركي الذي تتحكم فيه طبيعة القوى والأطراف العاملة؛ إذ تتحول حركيته من المعية إلى التفاوت، ومن المركز إلى الأطراف، ومن المحيط إلى المحور، وهكذا تمضي نصوص المجموعة في حركة سردية لا تلبث على حال. مظهر ثنائي آخر نشاهده على صفحات المجموعة؛ مظهر تشكيلها الهندسي الطباعي، إذ تقابل كل نص مكتوب صفحة تركت بيضاء، وتشكيل البياض بهذه الصورة التي يقابل فيها المدون/المكتوب، يعيدنا إلى ثنائية المدون والممحو الأزلية، ما يختلف عما لما درجت عليه المجموعات المطبوعة من هذا الجنس السردي القصير جدا.

إن صفحة البياض في مجموعة «مد وجزر» خلقت هندسة اللا متجاور، كعلامة تشير بها المبدعة، ليبصرها المتلقي -بطبيعة الحال- جزءا لا يتجزأ من خطاب النص المدون ومثل هذه الحالة تكشف عن وجود مغزى دلالي عمدت إليه المبدعة؛ خصوصا عندما تنتظم المجموعة على هذه الطريقة دونما إخلال يؤخر اعتماد التأويل الذي لا تخطئه أبصار القراء. نص مكتوب ونص ممحو هكذا يجيء التأويل البصري للمتلقي وبه يتمم تواصله الفني كأحد أطراف الاتصال الأدبي المعروفة، ليضيف دورا إضافيا للنص المكتوب غير هيئته الساكنة كونها مكتوبا!

إنها لعبة المحو السردي التي يقوم بها النص المدون ليكون المكتوب الوحيد، وتلك حركية تشترك مع حركة الطبيعة (مد وجزر)، وتتسق بعد ذلك مع حركيات أخرى كـ: (البداية والنهاية، الأول والآخر، التذكر والنسيان) مما يوسع دائرة تأويلنا للممحو أمام عدد من الثنائيات، ولقياس فاعلية الممحو في تأسيس مكتوب على ممحو ننظر إلى عناوين النصوص التالية: «كبُرتِ، خِبرة، تحول، لحظة تنوير، غفوة، إجازة، مستقبل، ولادة، 18ديسمبر، أمومة، فلسفة طفولية، أمسية، راحة أبدية، كان مُغَرّداً» ومنها إلى الثيمات الكبرى (بدأ وانتهى نسيه، تذكره، في أول اليوم، في آخر اليوم) التي تكررت في أكثر من نص.

 ملاحظين سيطرة دلالية تنتمي إلى عنصرين من عناصر السرد هي: الزمن والشخصية. عنصران يتكرران كإيقاع دلالي يبرهن على فاعلية السرد المتموضع تحت أقطاب تتناوب في الاستحواذ على السرد؛ يكتب أحدهما والآخر يمحو، وهكذا يمضي القص القصير جدا في صراعه المستمر، إلى أن تعلن الرؤى الساردة عن أيهما المنتصر؟ أيهما الممحو وأيهما المدون؟!

تطالعنا تفاصيل القصص بالمدونات التي: «قالتها له يوما، دارت الأيام، لم يتجرأ يوما، لكنه اليوم، ذات موعد، أحيانا، صفحات ذكرياتها، حنت لطفولتها، وقت اللعب قد فات، الوقت ليس مناسبا، ما زلت صغيرة، ليلة صيف حينها، سنوات طويلة ليكتشف في النهاية، ذات زمن، ذات يوم، نسي المسكين، عاد من غربته، صبيحة العيد، أُخرجت للتو، مدة ساعتين ونصف الساعة، انتظر اقترابه، ساعدها على نسيانه، تذكرا أنهما معا، سافر طويلا، نسيت صاحب الحرف، انتهى وقت المحاضرة، سيأتي زمن يعاف فيه الناس الدر الطبيعي، ليلة سعيدة، لبست العباءة طوال حياتها، هذه المرة، عندما عاد، تعلم أنه لن يأتي أبدا، أمسيته القصصية الأولى، بعد مساء طويل، ملأت عشه زمنا طويلا، تحولت في عهده الصحراء». تتشكل هذه الإشارات بتشكل سياقاتها النصية، لكنها في آخر مطافاتها لا تنتهي إلا إلى شخص أو زمن كعنصر قصصي تؤدي به الساردة خطابها القائم على محو يتلوه التدوين.

يعاودنا السؤال بعد كل هذه الحوارات الجدلية عن أيهما المنتصر، ومن له كلمة الفصل في البقاء مدونا؟

في الواقع نرى توظيفات القاصة للإنسان يأتي مقابلا للزمن، وقد كشفت لنا في غالبية النصوص أن القيمة المؤثرة في النص والخطاب هي قيم الزمن، التي تمارس دأبها وحركيتها القدرية كفاعل سردي تُملى على الإنسان بكل تفاصيلها، لتضعه موضع النسيان واللامبالاة والادعاءات والمظاهر التي لا تتوافق مع قلبه وحقيقة داخله، ففي قصة بعنوان «لقب» تقول الساردة: «خادمة تحمل –بلامبالاة-»، «أما هي فتدعي أنها تحمل قلب «أم». نص يصور الإنسان/الأم/الخادمة بأبشع الصور، صورة الادعاء حينما تتخلى الأم عن دورها وإسناده إلى خادمة أقل ما يتوقع منها هي اللامبالاة.

وفي نص آخر عن قلادة مهداة تعري لنا ممارسات النكران و التناسي إذ تقول: «ونسيت صاحب الحرف!» وهي صورة من صور المحو، فكأن الشخصية التي حصلت على القلادة تمارس بنسيانها فعل المحو.. ذلك المحو الذي حفظه الزمن ودونه شاهدا على خيبة الإنسان وهزيمته أمام صدق الزمن ووفائه الذي يعيدنا إلى ما دونته الساردة في صفحة المجموعة الأولى تحت عتبة عنونتها بثنائية «إهداء وشكر» قدمتهما «لتلك اللحظات التي أهدتني ومضاتها» معلنة عبر تلك العتبة عن اعترافها للحظات الزمنية بقيمتها الدلالية كونها أضاءت لها بومضات متكررة لتكشف لها عن الحياة والكتابة من خلال إزاحة عتمات إنسان هذا العصر وأفعاله العابثة بالقيم والجوهر عبر ممارسات هي من قبيل الزيف والمحو وتغيير ظاهر الحقائق إلى كل ما من شأنه التشويه وإلقاء الخطيئة على براءة الزمن/ براءة الطبيعة، من تهمة الذي أغراه «الجزر» بأن يكتب اسمها على رمال الشاطئ» دون أن يعي أفعال الطبيعة الزمنية تجاه المتنصلين عن مسؤولياتهم والهاربين عما كتبت أيدهم.

وأولى مناورات الحق هي عندما «جاء «مدها»..» لا ليعلن الإنسان عن انسحابه فقط وإنما هو انسحاب فعلي، ولؤم قولي يلقيهما على الطبيعة عندما «قال: البحر غدار وما غدر البحر في محوه لزيف المكتوب، وإنما تلك ظواهره وأفعاله التي يعرف بها مد وجزر حركة طبيعية منسجمة مع واقعه الزمني الذي لا يتغير منذ الأزل، واقع يستجيب فيه إلى مطابقة الأزمان ومرافقتها رفقة الخل الوفي الذي لا يتأخر عن الطريق ولا يتقدمه.

صحيفة الحياة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى