«مصر الأخرى» لفاضل الربيعي: نقد القراءة الاستشراقيّة

يواصل الباحث العراقي فاضل الربيعي (1952) سلسلة إصداراته في ما يمكن عدّه تصحيح مكامن الخلل في القراءة الاستشراقية لمفاصل هامة من التاريخ القديم، ونعني تاريخ الشرق الأدنى، لا سيما فيما يتّصل بالتأسيس التاريخيّ لـ «إسرائيل» في جنوب الشام. نعني فلسطين.

محور إصداره الجديد «مصر الأخرى» (رياض الريس) ــــ الذي يندرج في إطار أبحاث سابقة، منها مجلدا «فلسطين المتخيّلة: أرض التوراة في التاريخ القديم» ــــ يهدف إلى كشف ثغرة «مصر» الواردة في النصوص القديمة: النصوص الآشورية والسجلات المصرية القديمة، ونقوش ممالك اليمن القديم، ونعني النقوش السبئيّة والمعينية والحميرية.

تتأسّس قراءة الربيعي، عموماً، على كشف المغالطات الفادحة في القراءة الاستشراقية لناحية مطابقة أسماء المناطق والقرى والأشخاص التي وردت في التوراة، مع أسماء مناطق وقرى تقع في فلسطين اليوم والشام عموماً. في هذا البحث، يُقيمُ الربيعي قراءة يعتبرها الأكثر معقولية من ضمن القراءات التي تتصل بحقبة ممالك الإسرائيليين، من أواخر الألف الثاني قبل الميلاد وصولاً إلى الحقبة السبئيّة، أواسط الألف الأوّل قبل الميلاد.

قراءة تحيل إلى أعمال الباحث والمفكر اللبناني كمال الصليبي، وتحديداً مؤلفه الشهير «التوراة جاءت من جزيرة العرب». على أن الربيعي ينحو منحىً تفصيليّاً في ضوء بعض المعطيات النقشية المكشوف عنها حديثاً (نقش صخرة واحة تيماء للملك رمسيس الثالث ١١٩٢ ق. م- ١١٦٠ق.م مثالاً لا حصراً). نتحدث، إذن، عن خلاصات مثيرة تتعلق بردم ثغرات تتصل بأحداث تاريخية فاصلة ظلت تفتقد، برأيه، إلى قدر من المعقولية.

قدس\قدش\قادش

مثالاً لا حصراً، ينفي صاحب عشاء المأتم (1984) وقوعَ المعركة الشهيرة بين الآشوريين والمصريين بقيادة رمسيس الثاني في ما يعرف، اليوم جغرافياً، برفح الفلسطينية من ضمن حملة آشورية كبيرة نتج عنها أسر ملك مصريّ ورد اسمه في النقوش القديمة.
يكفي ــ بحسب الربيعي ـــ مقارنة متن التوراة مع نقوش مصرية وآشورية قديمة لبناء منظور مغاير أكثر تماسكاً عن معركة قادش بين الآشوريين والمصريين فوق برّ فلسطين اليوم. بنتيجة المقارنة، ليست «قدس\ قدش» (السين والشين تتبادلان الأدوار في اللغة العبرية) المذكورة في التوراة هي الموضع المقدس الشهير في فلسطين، البلد العربيّ اليوم، كما درجت على ذلك القراءة الاستشراقية. نتحدّث عن جبل قدس/ قدش في منطقة الجوف اليمنيّة في مملكة «معين –مصرن»، التي كانت هدفاً لحملات الآشوريين وتحديداً «تجلات بلاسر الثالث» في ما يعرف في الأوساط الأكاديمية بمعركة قادش. الملك المصري المأسور ليس، إذن، ملكاً\ فرعون مصر (رمسيس الثاني)، بل هو ملك هذه المملكة اليمنية القديمة. تقدم لنا هذه القراءة، تصوّراً واضحاً عن كون الحملات الآشورية لم تستهدف البر الشامي، بل إنّها تتوجه في الأصل إلى جنوب الجزيرة العربية، والمعارك في الأساس كانت في سبيل تطويع تلك القبائل التي تستوطن جبال وسهول اليمن الخصيبة.

بمقارنة منهجية لنصوص التوراة والسجلات المصرية القديمة (سجل الكرنك الشهير) مع نقوش سبئية ومعينية قديمة، أمكن فكّ ثغرات مهمة من ثغرات تلك الحقبة. ونعني الانتباه إلى كون النقد الاستشراقيّ للتوراة قد أغفل ما يمكن اعتباره شبه تطابق منطقيّ بين المدونات القديمة (التوراة) من جهة والمعطيات المثيرة المتضمنة في النقوش السبئية والحميرية والمعينية القديمة.

مصر التوراة

إذن، مصر الإقليم العربي اليوم، ليست مصر المقصودة في التاريخ الرسمي المكرس لمملكة اسرائيل القديمة. وبحسب الربيعي، يتحدث نصّ التوراة عن ورود اسم مصر والمصريين في التوراة بأربع صيغ رئيسية: «مصري»، «مصريم»، و«مشفحات ها مصريم» (أي عشائر المصريين) و«مصريم في أرض جازان». كلّها صيغ مختلفة، وكلٌّ منها له مدلول محدّد، فـ «مصري» لا يمكنه أن يكون هو ذاته «مصريم». كذلك، فإن تعبير عشائر المصريين لا يطابق وصف مصر الاقليم. كما أن مصر لا تقع في أرض جازان بحسب الصيغة الرابعة. في المقابل، وبحسب الربيعي، فإن نقوش المسند اليمنية قد أوردت اسم «مصريم» التوراتي في صورة «مصرن» وهي صيغة تتطابق مع الصيغة التوراتية (لأن مصريم هو اسم النسبة من مصر)، فضلاً عن كون «معين-مصرن» هو اسم دال على مملكة – مجتمع ينتمي إلى مكان يدعى مصر. وحتى اليوم ثمة قرية تدعى قرية المصري في محافظة «إب» (ص٤٦).

تفترض هذه القراءة أن جنوب الجزيرة العربية ـــ اليمن حالياً ـــ هو المسرح المنطقيّ للأحداث والمعارك بين الآشوريين وقبائل الاسرائيليين من سكان هذه المنطقة، وكذلك الأمر، هو مسرح المعارك بين تلك القبائل فيما بينها للسيطرة على طرق التجارة البحرية وعلى منتَج البخور الثمين، حاجة المعابد الآشورية. ممالك بني إسرائيل، الوارد ذكرهم في النصوص القديمة، هم أنفسهم، قبائل يمينة اعتنقت اليهودية، والصراعات بين ممالك الجنوب والشمال ــ ونعني يهوذا والسامرة ـــ في حقبة الانقسام بعد موت سليمان، قد وقعت بين ممالك حميرية من الجنوب وسبئية من شمال اليمن. وبالنتيجة، يصحّح الربيعي الخلط الشائع بين اليهود وبني إسرائيل. فبني إسرائيل «هم قبيلة عربية يمينة كفت عن الوجود مثل عاد وثمود. أما اليهودية، فهي دين عربي يمنيّ قديم. فليس كلُّ يهودي من بني اسرائيل بالضرورة. وفي المقابل، ليس كلّ بني اسرائيل يهوداً».

عموماً، يبقى تاريخ مملكة إسرائيل وكلّ ما يتصل بتلك الحقبة إشكالياً كونه واقعاً في قلب الصراع الهوياتي الذي قد «يؤسس» لحقوق سوف تغدو ذرائع لتبرير كيانات دينية ذات طابع «ديني/ إثني» في منطقة شكلت قلب العالم القديم. على أن القراءة الاستشراقية للتوراة هي القراءة المكرسة أكاديمياً، بطبيعة الحال. قراءة اندرجت في سياق طويل من سعي الدول الغربية الرئيسية إلى وضع المنطقة العربية والشرق الأدنى عموماً في تشكيلٍ يخدم تصورات المؤسسة الاستعمارية التقليدية. بهذا، تبقى أبحاث الربيعي ومن قبله الصليبي على أهميتها في حاجة ماسة إلى تجذير مؤسّسيّ وأكاديمي على نطاق أوسع من شأنه خدمة الإحالات التي يفترض أن تؤدي إليها إعادة تأسيس حقبة مملكة اسرائيل القديمة.

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى